الأحد، ديسمبر 17

الشاعر عبد الحميد شكيل

الشاعر عبد الحميد شكيل!المشهد الثقافي في الجزائر تحكمه الولاءات، لا الكفاءات
واجهته : نادية نواصر
في هذا الحوار يتحدث الشاعر عن جملـة من الأفكار، و الموضوعات، و الهواجس التي تقلق كل مبدع حقيقي. خاصة و نحن عشية " الجزائر عاصمة للثقافة العربية 2007" فلنتابع ...· مرت الجزائر بإرهاب متوحش، و خرجت منه سالمة بفضل رجال مخلصين، و محنكين، لكن "الإرهاب الثقافي" أبى أن يزول لشراهة قوية يتمتع بها "مقاولو الثقافة" ..الضالعين في النرجسية، و قهر الآخر كيف ذلك؟- دائما في أحاديثي العامة والخاصة، و كذا في كتاباتي أحرص على التفريق الجوهري بين "المثقف الحقيقي" و بين "المثقف المزيف"، هذا الأخير له قدرات عجيبة و جاهزية عالية في التخفي، و المناورة، و هذا المثقف (!) إن صح أن يسمى كذلك- هو الذي يسعى بخبث عال، و قدرة تمثيلية مرعبة على تصدر المواقع الثقافية، و احتلال المنصات، و العمل بوتيرة موصوفة على أن يكون دائما في مقدمة المشهد، طبعا هذه عبقرية خاصة لا يقدر عليها إلا الضالعون في فن المراوغة، و الخبث، و النفاق، و تلك موهبة خاصة، و كل موهوب لما خلق لـه بالتأكيد "الإرهاب الثقافي" كمـا أسميته من الصعب الإتيان عليه لأن ذلك كما أرى- لا أعرف الفرح الحقيقي سوى على مستوى اللغة مرتبط بحالة متأصلة، و متجذرة في كيان المجتمعات التي مازالت تحتكم إلى آليات شاذة و غريبة، في تأثيث المشهد الثقافي العام، بل أذهب إلى القول يقين عال : بأن المشهد الثقافي في الجزائر تحكمه الولاءات لا الكفاءات، و إذا ما بقي الوضع على ما هو عليه من فساد و ترد، فأعتقد أن الثقافة الجزائرية ستنهار بشكل مريع، لأن الثقافة الحقيقية و البناءة و المستقبلية لا يمكنها أن تزدهر و تثمر في الأجواء العفنة إن الكثير من الأشخاص، و -لا أقول المثقفين- الذين يتحكمون في دواليب العمل الثقافي، يعملون بكثير من الاحترافية على تدمير البنى المعنوية للثقافة، لأنهم يديرون الثقافة بعقلية متغطرسة، و نرجسية، و عصابية، و يعتقدون في قرارة أنفسهم بأنهم كل الثقافة و الآخرون الصدى.· الكثير من الكتاب و المبدعين "يستعجلون" الشهرة، فيسعون بنرجسية عالية إلى حرق المراحل، دون اعتبارات، كيف تعلل ذلك؟- الكتابة الحقة هي تأمل عارف في الذات و محيطها، و تفاعل منجز مع كل المعطيات، و الحيثيات، الكاتب، أو المبدع الذي "يستعجل" الشهرة سيكون سقوطه مريعا و مدويا، أعني لن يصل أبدا .. الكاتب و المبدع الحقيقي الذي يسعى إلى الوصول إلى الشهرة عليه أن يخلص للذات و الموضوع، و أن يستوعب التجارب، و الخبرات التي سبقته، و أن يتعامل معها بحب، و صدق، و تلقائية و دون إكراه أو تعسف، الكاتب الحقيقي عليه أن لا يخون، أقصد عليه أن يكون منصفا لذاته، و موضوعه، و أنطولوجيته، و للتراث الذي أنبنت عليه معرفيته، لأنه لا يوجد كاتب أتى من العدم الكتابي.. و من يزعم غير ذلك فهو يجانب الحقيقة، و يكذب على الناس، و يغالط الواقع التاريخي.· حدثني عن أوجاعك كمثقف جزائري، يعيش هذه الأوضاع، و التحولات القاسية ؟ - الأوجاع كثيرة، نحن الوجع، كيف نذهب إلى فرح المفردة و عرسها، و نحن نعيش مأساة الذات في تحولاتها العرفانية و النوستالوجية، الوجع رديف الروح الإنسانية المبدعة، و هي تجتاز برازخها، و جحيمها نحو مواطن المحبة، و الخصب، و التذكار .. الوجع الطاعن يسكن مفاصل اللغة، و يغشى السموات التي تدخلنا طقسها القاسي، متلبسين بالقهر، و الخيبة و الانكسارات، و الخسارات التي لا محيص عنها .. وجع الوقت، و جرح الكتابة، و سديمية الواقع هو ما يوشح يومياتنا، و يدفع بنا في مجرى القسوة، و الاجتراح الناشب، الفرح مفردة غير منحازة و غير هابة .. لا أعرف الفرح الحقيقي سوى على مستوى اللغة، و هي تطفح، و تبوح بما يتبدى في الحياة و اليومي.. كمثقف إن صح أن أكون كذلك أعيش غربة الذات و الموضوع، تنهشني اللغة و تضغط على نفسي، و هي تتطلع إلى بهجة المعنى الآبق، كيف نتحسـس أوجاعنا، و هي تزداد قسوة، وعنفا، و تدميرا، الوجع الممض هو القاعدة، و الفرح هو الاستثناء الجميل .. المثقف عندنا صيغة لغوية، إنشائية غير محبوبة، و لا مستساغة في يوميات الجزائري، المثقف في الجزائر لا يكبر و لا تعلو قامته إلا بعد الرحيل الأبدي (!!؟) يا لها من أوجاع عبثية، تزداد إيغالا و قسوة كلما أشرعنا خطواتنا نحو الآفاق البعيدة..· هل تؤمن بوجود "أدب رجالي" و "آخر نسائي" و إلى أي حد استطاعت المرأة الكاتبة أن تحقق ذاتها وسط مجتمع ينظر إليها بريبة و شك و توجس ؟- أنا لا أحب هذه التقسيمات الطبقية للأدب ..الكتابة الجيدة و المبدعة، تكون لدى الأديب الرجل، كما يمكن أن تتحقق و توجد لدى المرأة الكاتبة و المبدعة، أنا ضد تأنيث الأدب و تذكيره .. هذه طبقية جديدة يسعى بعض المتأدبين، و أشباه النقاد لتكريس هذه المقولات الصفراء لغايات و أهداف أهمها : التمعش، و قهر النصوص الجميلة، و خلق مناطق معزولة المعنى، و ممارسة الإرهاب النقدي و الثقافي .. الذكورة، و الأنوثة في الأدب لا تبدو واضحة، بل أن الكثير من النصوص التي يكتبها بعض الرجال (!) تلوح من خلال سطورها، و لغتها أنوثة جليه و العكس صحيح .. الكتابة الإبداعية الناجحة، هي ما تحققه النصوص في تحولاتها الباذخة، بعيدا عن هذه المقولات و التصنيفات التي تكشف عن خلل واضح في الرؤية، و تعتيم بين للمشهدية و خطية النقد البناء و الصحيح، إن النص الجميل و المؤثث، و المضمخ بعبق الإبداع و شموخه هو الذي يحدد شرطه الإبداعي، و سمته الإنساني، و ما سوى ذلك فهرطقة لغوية لا تجلب نفعا، و لا تخصب ضرعا..· ماذا عن سياسة سر في نفس التيار و خذ نفس الدرب الذي أسلكه، و إلا سأحمل لك الهراوة، و أطاردك، و أغلق في وجهك الأبواب، و المسالك هل هي كما قلت في حوار سابق : سيادة "ثقافة العصب، لا ثقافة النخب.." !- للأسف الشديد هذه السياسات القمعية، و الجبانة هي التي تتحكم في آليات العمل الثقافي، و كل يريد أن يكون "الرأس" و الآخرون "الذنب" و الويل لمن يرفع صوته، أو رأيه، إنها "ثقافة العصب، لا ثقافة النخب" البعض مازال يتصور، و يحلم بدور الزعيم و على البقية أن يكونوا الأتباع و الرعاع، السادة، و علية القوم .. إنها ثقافة الاستئصال و التبعية و المحو، إني أراها تلوح في الأفق و تؤشر لمستقبل غامض و قامع، الواقع الثقافي في الجزائر نقولها بالصوت العالي : تحكمه الشللية، و الميلشيات الثقافية التي ما تزال تنظر إلى المشهد الثقافي، و تتعامل معه بقدر ما يجلب لها من فوائد و موائد، يكذب عليك من يزعم غير ذلك، الذين يزحفون من أجل الوصول إلى المناصب لا يمكن أن يقنعوا أحدا بأن ذلك يدخل في مفهوم "النضال الثقافي" بل أن غالبيتهم- باعوا الذمم و الهمم و أصبحوا خطرا حقيقيا على المثقفين الحقيقيين المرابطين في المواقع الأمامية، بل أرى أن الكثير من مجايلينا قد تنكروا للقيم، و المبادئ التي ناضلنا من أجلها، و صار همهم الوحيد و الأوحد سياسة "النعم" لا سياسة "القيم" لك أن تتصوري وضعا ثقافيا و أدبيا، يتولاه مثل هؤلاء التنابلة الجدد المسلحين بالخبث، و الرياء، و المكر الناجز أدعو المخلصين، و المحبين للثقافة أن يساهموا -كل في موقعه- لفضح هؤلاء الضالين، الذين خنقوا أصوات المثقفين الأحرار، و صاروا ملكيين أكثر من الملك، و باعوا ماء الوجه، و ذكاء العقل، و عفوية الذاكرة، و ثقي أن ما ينفع الناس سيبقى في الأرض، أما الباقي فستذروه الرياح الكواشف..· بينك و بين الكتابة علائق، و وشائج لصيقة تذهب حد العشق، و الفناء الصوفي كيف ذلك ؟- الكتابة هي سيمترية الروح، و ماء الذاكرة، و هي تعرج نحو سموات اليقين، و البهجة، و النشدان .. الكتابة هي رصد لحيوات كثيرة، و هي تمضي في زحمة الحياة، و جبلتها القاسية.. المثقف عندنا صيغـة لغـوية، إنشائيـة غير محبوبة، و لا مستساغة .. !التعاطي مع الكتابة في المفهوم الشامل- يجب أن يكون تعاطيا جماليا مبهجا، يستند إلى مدونة التراث، وصولا إلى ما سيكون تراثا.. التجربة الكتابية التي تخون تسقط، و لا يمكنها أن تنهض، لأن الكتابة العشقية التزام مبدع مع التحولات الحاصلة في الذاكرة و الوجدان، و المتحققة في المعيش و اليومي..التجارب الكتابية المنجزة و الناجحة هي التجارب التي أخلصت لذاتها، لمنظورها، و رافدها الثقافي و الجمالي، الكثير يعتقد بأن الكتابة هي تلطيخ صفحات، و إفتعال لغة بائسة و متشنجة، و الدخول في عماء المعنى و بؤسه، الكتابة هي تقويض منجز، و فاعل لكل المعاني الشريرة و البائسة..الذين تفيض نفوسهم بالحقد، و الكراهية، و السواد، لا يمكنهم الدخول إلى عوالم الكتابة الخضلة، و جناتها المترعة بالخير، و الفضيلة و الأمل..الكتابة عندي غابة واسعة، كلما توغلت في أنحائها و عمقها عرفت الكثير، أما الذين يطوفون بالحواشي و تشملهم "ثقافة الغاشي" و لا يغامرون صوب الأماكن البعيدة..أعتقد أنهم سيخرجون من موطن الكتابة، تجللهم الخيبة، و الانكسار..في المحصلة الكتابة لا تنفتح عوالمها النعمية سوى للذين يحبونها لذاتها، و يخلصون لها العشق والحب، و الانتماء.. و ما سوى ذلك فعبث لا طائل من ورائه..· أسمعك دائما تردد : إن الكتابة محبة، و أخلاق، و الكاتب الأصيل موقف موسوم بالطهر، و النبل، فماذا تقول للذين حولوها إلى صيغة "الحوت الكبير ياكل الحوت الصغير"- عطفا أقول : الكتابة تمايز موصوف، و حالة عالية من الإبصار المشفوع برؤيوية استشرافية ، تقرأ الواقع، و تسبر أغواره، و تذهب نحو المستقبل بيقين عال، و حدس كاشف، و ألمعية تؤشر الدرب نحو المستقبل الجميل.. الكتابة التي تخلو من الأخلاق في - مفهومها العام و الجـمالي- هي كتابة منقوصة من الصدق، و تعمل على تأصيل الشر، و الخديعة، و النكران، الكثير من الذين تسللوا إلى أرض الكتابة و مرابعها الجميلة يخونونها، و يرتكبون تحت رايتها الكثير من القبح، و الفضائح..طبعا مثل هؤلاء لا يمكن التعويل عليهم، لأنهم حشرات وافدة، سرعان ما يأتي عليها الموت و الطاعون..لأن الكتابة الصادقة و الشريفة، تطرد من سماواتها كل آثم ، لا يلتزم بميثاق الشرف الذي هو علامة الكتابة في تجلياتها الآجلة، و العاجلة -بكل أسف- الساحة الثقافية عندنا صارت ملوثة بشكل مريع، لم يعـد فيها للموقف الإنساني النظيف أي معنى، و هـذا ما سرع في تردي الوضع، و الإتيان عليه من قبل الغوغاء الذين شوهوا عالم الطهر، و النبل و الأريحية طبعا- هؤلاء لا يمكن النظر إليهم سوى أنهم حالة شاذة و طارئة لا تدوم طويلا، لأن عمر الخيانة قصير، و الكتابة المستوعبة لزخمها الموضوعي و المعرفي هي التي ستنتصر في النهاية، ذلك منطق التاريخ، و مقول الكتابة، أما الحوت الكبير في نهاية الأمر- سينقلب على بعضه في حرب لا تبقي و لا تذر، ذلك أيضا منطق الأشياء و حتميتها..· العديد من الكتاب صنعتهم المناصب، و زادت من تألقهم، لكن عبد الحميد شكيل المنحدر، من جيل التعب، المنصهر في أتون كتاباته صنعه نصه، و ما سكب فيه من قوة العطاء، حتى أنه جاء متميزا، رفيعا لا يشبه إلا نفسه كيف ذلك ؟- و من تباهى بملابس غيره عريان كما يقول المثل الشعبي، الحقيقة ما جاء في أفق السؤال حقيقة مؤكدة، و حالة معاشة، فكم من الكتاب الذين كانوا على هامش الكتابة و اللغة، بمجرد أن وصلوا إلى دواليب السلطة، تنكروا لكل شيء، و صاروا "كتابا" يشار إليهم بالبنان، و يذكرون بالقلب و اللسان، هذه حالة و ظاهرة لا ينخدع بها سوى الذين لا يتوفرون على حاسة الذوق و آليات المعرفة .. أنا لا تزعجني مثل هذه الحالات التي تعمل على تضبيب الرؤية، و تزييف الحقائق، و تشويه المشهدية الثقافية التي تحتاج إلى فرز كبير، و واضح، شخصيا لا أحسن عقـد الصفقات الأدبية ، -كما أشار أحد الكتاب إلى ذلك- لإيماني الشديد و اليقيني، بأن الكاتب الحقيقي في كل الأزمنـة، و الأمكنة تصنعه كتاباته و نصوصه و تدل عليه مواقفه الكتابية و الأخلاقية، أما سوى ذلك فهو خداع بصري.. لا يلبث أن يزول و تظهر الحقيقة.. على الكاتب الحقيقي أن لا يقع في مثل هذه الحالات الشائنة.. طبعا المداحين، و المداهنين هم الذين يعملون على تكريس مثل هذه المواقف الخاطئة، لكن منطق التاريخ و حكمته ستعمل على تصحيح اتجاه السهم، و إن طال الزمن.. منذ البداية عولت على الذات، و الجهد الشخصي، و دون ذلك فأنت مهدد، و في وضع غير مريح، و ما حك جلدك مثل ظفرك..· حين تأتيك القصيدة كأنثى رقيقـة، تفيض بالرغبة، قائلة : خذني بقوة الماء، و اخترق قهر جسدي. أنت المغلوب في عشقك ذلك الذي لا يجارى كيف تخرج من هذه المغالبة ؟- القصيدة حين تجيء تكون حارة، طازجة، تهب كاسحة، متلفعة بالقوة، و الحنان، و الهذيان..تجيء مشرئبة بتباريحها، و أشواقها، و اغتلامها، و خيباتها، تتشظى في المرايا العرفانية، و تذهب بعيدا في سديمية المعنى، لتدخل شواظ البرزخ و عمائه، و هو ينأى في المعارج التي تحتلب اللغة، و هي تخرج من طينها، كيما تتزيـا للمفردات الجميلات، و هن يلدن النص الشعري مدهونا بزيت الرغبة، و سفاد الأوجاع الغائمة،و هي تجتاز ميقات المعنى، و عفوية اللغة، و هي تدبج أوجاعها، أوجاعي التي تخرج من بين الصلب و الخرائب لتشيد منازل المعنى، و دساكر الذاكرة الممهورة بالصهد، و الخيبات، و تحولات الذات المقهورة و هي تمرق من سراديب القهر و الحرمان، لتبدع سيرة القصيدة التي تطلع من دهاليز الوقت المطعون بالغدر، و الخيانات الموصوفة . إن القصيدة الشعرية التي أكتبها تكون موصولة بالذات، المثقــف في الجـــزائــر لا يـكــبر، و لا تعــلـــو قامتــه إلا بعــد الرحيـل الأبدي .. يا لها من قسوة !و هي تتحفز للانقضاض على المعاني، و وجع الذاكرة، ربما يكون الاحتدام بين الذات و القصيدة احتداما متواشجا مع الكثير من الاسقاطات، و النـزوعات التي تؤسس معنى الرسو الجميل، غب التطواف الشاق و المتعب في أرض النص و تخومه، الخروج من طقس القصيدة ليس بالأمر الهين و اليسير..كيف تخرج من حرب الوقت، و شبكات اللغة و هي تشرع في وجهك المتع، و اللذاذات، و الحرقة..عليك أن تكون حذرا، و أن تتعاطى مع القصيدة، لأنها قد تخلف في مخيلتك ندوبا، و جروحا من الصعب أن تزول آثارها.. القصيدة اللصيقة بالذات هي جرح الأنا، و نزف الروح، و هي تعبر الصراط الآخر..·· حدثني عن زمن من الكتابة المليء بوجع المخاض، و فرح الولادات، عن مسيرة الإبداع لديك ؟- زمن الكتابة، زمن هلامي، من الصعب القبض عليه، و الإتيان على شبكاته لأنه زمن الذات و المخيلة، ما تفرزه الأنا المبدعة في انزياحاتها النصانية، و تحولاتها العرفانية، و شطحاتها النوستالوجية.. الأنا الكاتبة كمفهوم وظيفي يظل عصيا على الشرح و التوصيف و المعاينة، لأنه زمن تتداخل في تكوينه عوامل كثيرة، تضرب في متاه المعنى و جذره المرتبط بكل التحولات، و المغايرة المسكونة بالهوس، و نبض المخيال و سطوته..الكتابة هي وجع ممض و حارق و مؤلم، يجيء جراء قلق الذات و تشظيها، و ذهابها نحو الاجتراح و البوح الطالع من الجراحات النازفة، و هي تجتاز عتبات القول، و خلاصات اللغة..أن تكتب، فأنت تمارس قهر الذات، و تعرية الأنا و المسكوت عنه، و الذهاب بعيدا و عميقا في توصيف الحالة الإنسانية و هي تكدح، من أجل التغيير، و المساءلة الحقة، الساعية للإجابة عن الكثير من الأسئلة العالقة في مسار المعرفة الإنسانية التي ستظل ذات ملامح يشوبها الكثير من الخوف، الممزوج بالرهبة، و الزوغان، و عدم الركون إلى "اليقين البائس" الذي سيظل سؤالا لائذا في براري الوقت و الذاكرة ..الوجع الكتابي هو لذتها القصوى التي لا يعرفها إلا من كابد ذلك و عاش ألمه الممض و الطازج ..السيرة الإبداعية، قاسية، و شجوية، أعني أنها لم تأت هكذا من العدم، بل أنها نتيجة بحث، و عمل، و اجتهاد، و قهر الموهبة و حدها لا تكفي لأثراء العملية الإبداعية، العمل التثقيفي الصارم، و المتواصل، و القسوة على الذات هي السبيل لتقوية هذه العملية، و تأصيل مكوناتها النفسية، و المعرفية..الكتابة الإبداعية الممهورة بعذابات الأنا، و تشوفات المستقبل، هي وطن الكاتب و أرض عيشه..· أنت القائل في قراءة قمت بها حول أعمال الشاعر يوسف رزوقة بأن النص الذي تخونه اللغة يسقط في أول اختبار، فهل هـذا هو سر نجاح عبد الحميد شكيل خاصة على الصعيد اللغوي ؟- اللغة وطن الشاعر و "بيت الوجود" على حد تعبير هـولدرلين، و هي "مسكن الكاتب و مأواه" كما قال هيدغر ..باللغة تكبر القصيدة و تتفاخم، و تذهب نحو تخوم المعنى، و فلسفة الأبعاد، اللغة في العمل الإبداعي تكون المدماك القوي، و السند الحصين الذي ينهض بالنص و يذهب به نحو التأصيل، و الحفر، و اللذاذات الأخرى..اللغة هي أريج الكتابة و ميسمها..النصوص العظيمة في تاريخ الإبداع الإنساني من الياذة هوميروس وصولا إلى جداريات محمود درويش هي التي صيغت بلغة إبداعية ثقافية، غاية في البذخ، و الحذق، و الافتتان، و الجمالية، و كما قال مبدع "أزهار الشر" : "داخل القصيدة العظيمة هناك قصيدة أعظم و هي اللغة" من هنا تكون اللغة علامة فارقة، و مميزة بين نص و آخر.. بالتأكيد اللغة وحدها قد لا تكفي إذا لم يكن المبدع متمرسا، و منجذبا إلى الأدوات الفنية و الجمالية، مزودا بالدربة، و الثقافية، و الأدبية، و الحس الإبداعي، و سمت اللغة، و مناخات المعنى الذي لا يخون سوى الذين يكونوا قد تسربوا إلى محفل المعنى الشعري و الإبداعي، و هم خلو من تلك العلامات العرفانية، التي تتلبس المبدع و تشرنقه، مرة أخرى أزعم بأن اللغة هي المؤشر الذي لا يخون، و هي العلامة الفارقة بين نص إبداعي، و نص إتباعي، غير قادر على المغامرة، و التخطي، و الدخول إلى أرض الشعر و سمواته.· أي عمل من أعمال عبد الحميد شكيل حمله على الشعور "بالاطمئنان"، من أن تجربته الشعرية قد تجسدت، و أنه استطاع أن يوحد بين ذاته، و الـذات الإنسانية ؟- اطمئنان المبدع الحقيقي في مجال "الرضا الإبداعي" غير وارد في المفهوم العام لمعنى الإبداع، و ما يترتب عليه، لأن الكتابة الإبداعية في تحولاتها هي : بحث دائم، و تجريب مستمر، و ولوج غير موصوف لعوالم إبداعية ملتبسة بتلوينات الذات، و تنابذات المعنى، بهذا يمكن القول : ليس هناك من عمل قد حملني على "الإطمئنان" إلى أن التجربة قد تجسدت، و آلفت بيني و بين الذات الإنسانية المبدعة، كلما أنجزت عملا إبداعيا جديدا، أشعر بعدم الرضا، الذي يعني : الانقطاع و الركون الباهت..إن الإبداع المتواصل هو شعور آخر من المبدع إلى أنه مازال في حاجة إلى مزيد العمل و التجريب، الكثير من التجارب تسقط في مدار الإعجاب، و الغرور، و النرجسية الشائنة، مرة أخرى أقول: لو كنت "مطمئنا" إلى تبلور تجربتي و اكتمال برجها البلوري لانقطعت عن الكتابة و الإبداع، و سويت أحزاني و أنسنة قلقي، و لجمت حصان المعنى الذي هو في حالة من الصهيل المتواصل.. أنا لا أستوعب تلك "الرطانة" و لغو الكلام الذي يطلقه بعض الذين يتعاطون الكتابة الإبداعية، في أحاديثهم الساذجة عن "تجاربهم الكتابية"، و كأنهم أنجزوا كل شيء، و ليس لهم من العمر الكتابي سوى بضعة أيام، الحديث عن التجربة الإبداعية و ما يستوجب ذلك ليس بالأمر السهل و الهين، من يستطيع أن يتحدث عن : الأرض و السماء، و البحر، و الكون، و الخلق، و الجمال، و العبث، و الضجر، و الموت، و الحياة، و الحب، و الخديعة، و فساد المعنى، و الشر، و الخير، و المغايرة، و الأزل، و مظاهر الطبيعة إلخ.. أنا أخجل من أن أتحدث عن التجربة التي هي جماع كل هذه المعاني التي ذكرت، فلنحترم الإبداع و الآخر، و لنبتعد عن هذه "الفذلكات" السخيفة، التي يطلقها بين الفينة و الأخرى بعض هواة الكتابة و حواتها الجدد..في مجلة "عمان" قال عنك الدكتور عبد الرحمان تبرماسين بأنك من رواد "النثيرة" في الجزائـر بلا منازع، و أنت في زمن اختفى فيه آخرون، بقيت دائم العطاء، وفيا للكتابة، للقارئ، لوطنك و لنفسك كيف ذلك ؟- الكتابة وفاء الذات لكينونتها، و لتراثها، و لحزنها، و لكل معاني الخير، و النبل، و السلام..الكتابة صدق المخيلة، و حنين الأنا، و الشفاعة التي تقود إلى أرض الخصب، و الإطمئنان .. الوفاء للذات هو وفاء للآخر، للوطن، و للنفس و لكل الأشياء التي تعول على جاهزية الصدق..الخيانة الحقيقية هي خيانة الذات و خياراتها، كل الذين خانوا الكتابة، هم في الحقيقة يحملون بذرة الخيانة في صباغ دمهم، الخيانة صورة لصيقة بالنفوس الحاملة للقابلية، تحقيق الذات الكاتبة و صدقها، يستدعي من الكاتب التخلي عن الكثير من المتع، منذ البداية كانت الكتابة هي الملاذ و المأوى و المعنى و كل ما يطمح إليه الإنسان في حياته، الوفاء العشقي للكتابة هو وفاء لكل المعاني الإنسانية النبيلة..الكتابة هي النبل، في مواجهة الخيانة التي هي القبح الطاغي، الذين خانوا الكتابة و طقسها و جماليتها، تخلت عنهم، و صاروا لا شيء يذكر، لأن الكتابة ذكر، و تذكر، و تذكار، و ذاكرة، و من الصعب، المحافظة على صفاء الذاكرة و نقاوتها..من هنا يجيء الحديث عن المبدع الحقيقي، و بقية الخلق الذين شوهوا حديقـة المعنى، و أفسدوا متعة القول، و سحر الحكي، و لونوها بالزيف و النفاق، و الكذب، بل و صاروا خطرا على الكتابة و الكاتب، قد يكون الوفاء للذات، و المعنى، و الإنسان قد أضر بي -في بعض الحالات- لكني أشعر بالرضا و راحة البال كلما نظرت إلى الخلف، المطلوب من كل كاتب أصيل قبل الحديث عن التجربة أن يتحدث عن الأخطاء..· تقصيـر الإعلام في حق المبدعين، و المثقفين، ألا تراه ظاهرة قائمة في الجزائر لها طقسها، و خصوصيتها ؟- الحديث عن "الإعلام الثقافي" هو حديث عام يشمل الظاهرة الثقافية و الإبداعية .. لا أعتقد بوجود هذا الإعلام، أصلا، هناك بعض المحاولات المعزولة تتم بين الحين و الآخر تحكمها ظروف، و ملابسات، في معظمها يخضع لاعتبارات، لها طقسها، و خصوصيتها، و هدفيتها، المشهد الثقافي في الجزائر أكرر "تحكمه الولاءات، لا الكفاءات"، بل أستطيع القول دون تردد بأن " الفساد الثقافي" عندنا يفوق بكثير الفساد الاقتصادي و الأخلاقي و الاجتماعي و السياسي، و لكن لا أحد يصرخ أو يحتج أو يقاوم، لأنه ببساطة لا أحد ينظر بعين الرضا، و القناعة إلى الثقافة في الجزائر، الجزائر تأتي في طليعة الدول العربية غيابا عن المنابر، و المنتديات الثقافية العربية و الدولية، هذا يأتي من ضمور الحس الثقافي و الحضاري و تغييب المصلحة العليا للبلاد، من طرف الذين يتحكمون في مفاصل المشهد الثقافي و دواليبه، و هذا محزن، و شديد الوقع على المثقف الجزائري الذي يعيـش المأساة على أكثر من صعيد و معنى.. و إلا كيف نفسر هذا الصمت البليغ عشية الجزائر عاصمة للثقافة العربية 2007، لا شيء يدل على ذلك..إنه الصمت الذي يؤدي إلى الصمت..إننا أمة العجب..* في زمن نزعم فيه أننا نعلي حرية الرأي و التعبير يتخذ منك موقف لمجرد أنك قلت كلمة استحسان في كاتب ما..حتى القلوب أرادوا أن يحددوا لها نبضها ؟- الكثير من الذين تسللوا إلى حديقة المعنى، و مغاني الكلام الفضيل، مصابون بالعصاب، و المرض، و الشيزوفرينيا، و الغرور الزائد، كل واحد يعتقد أنه يملك كل الحقيقة، و على البقية أن تبارك أقواله، و أفعاله، و قبحه ..أنا لا أفهم مثل هذه الحالات التي تخول لهؤلاء الاعتراض الشائن على موقف كاتب من قضية، أو موقف ذا معنى أو هدف أخلاقي و إنساني، يجب أن نفصل بين مالنا، و ما لغيرنا، علينا أن نتخلص من الأنانية الصفراء، و أن نرفع سوية الرؤية، و ننخرط في الإبداعية العالية، هدفنا الأسمى و الكبير، الإبداع، و الإبداع وحده، بعيدا عن الزعامات الكاذبة..على "الرعاع الثقافي" الواهم أن ينتبه لمثل هذه السلوكات المنحطة، و التي أصبحت حيزا نشازا في الحقل الثقافي و الابداعي على "شنابيط الثقافة" أن يعرفوا حجمهم الحقيقي، و أن يفهموا بأنه ليس هناك "أبطالا و كومبارس" في العملية الإبداعية ..هناك مبدع جيد، و آخر رديء .. لا أحد يمكنه أن يحجر على الرأي، و الفكرة، و الموقف(!؟) على الذين في نفوسهم مرض أن يصححوا مواقعهم، و ينتبهوا لانزلاقاتهم، و -قبل هذا و ذاك- أن يعرفوا قاماتهم و أحجامهم، و عاش من عرف قدر نفسه..و ليس كل ما يلمع ذهبا..· من تلك المرأة في نصوصك- التي أخطأت الدرب، و أخطأت العمر، و أصابت القلب بالأوجاع ؟- الكثير من الأشياء الجميلة في حياة الإنسان تضيع منه في غفلة من الوقت، و الذات، و الذاكرة.. تلك المرأة، الشواظ، و الزنبقة، و الأفق المفتوح على احتمالات الموت و الحياة.. مازلت مسكونا بها، تائها في سماواتها، و غاباتها، تركت ندوبا في النفس و المعنى، وظلت جرحا غائرا و نازفا في مناحي الروح المجروحة..هناك حالات قدرية من الصعب أن تجدي لها تفسيرا، أو تعليلا، على الرغم من أنك تراها أمامك، تمشي و تتحرك، و تتجلى، و تومض، لكنك لا تنتبه لها إلا بعد فوات الأوان و انصرامه، و صعود الذات إلى مدارات التيه، و البهوت، مجللة ببلل اللحظة، و هي تتحلل، مخلفة وراءها الكثير من الجراحات، و الآلام، التي تزداد قسوة مع مر الأيام، و كر السنوات.. تلك المرأة ستظل النص الغائب و المعنى الآخر، و الجرح الذي لا يندمل، و الأمل الذي لا يعود، لكنني أعلل النفس و أذكرها، و أنا أجتاز عتبات الأيام، محتضنا أياها، حالما بالذكر، ... و هل الحياة سوى حلم من الصعب أن يتحقق و تلك سنة الحياة، التي لا نملك حيالها سوى أن نبتسم، و نتعجب، و نأمل

ليست هناك تعليقات: