هي القلب النابض للاقتصاد. حتّى أنهم يسمّونها «العاصمة الاقتصادية» أو «يابان تونس». لكن تاريخها السياسي والنقابي مرسوم بنضالات أبنائها كذلك، هي التي أنجبت فرحات حشّاد، مؤسس «الاتحاد العام التونسي للشغل»، والزعيم التاريخي للطبقة للعاملة، وشهيد حركة التحرّر ضد الاستعمار الفرنسي. ليس هو فقط، بل هناك آخرون، من بينهم مجيدة بوليلة، ملهمة الحراك النسائي في تونس، والهادي شاكر، وآخرون.
هي مدينة صفاقس، ثاني أكبر المدن التونسية مساحة وسكاناً. هي عاصمة الجنوب، لكنها كذلك عاصمة الثقافة العربية للعام 2016، على الرغم من التعريفات النمطية التي التصقت بها، في الاقتصاد والسياسة والنضال النقابي، خاصة بعد المسيرة الجماهيرية التي شهدتها شوارع المدينة في 12 كانون الثاني 2011، التي تُعتبر الإعلان النهائي لسقوط الديكتاتورية في تونس حينها. تبقى صفاقس ثقافيّة بامتياز داخل تونس وخارجها. فهي التي أنجبت النوري بوزيد، أحد أعلام السينما في تونس المعاصرة، والممثلة هيلين كاتزاراس، والمخرج المنصف ذويب. كما الموسيقى والغناء، هي الجغرافيا التي احتضنت محمد الجاموسي وصابر الرباعي وسنية مبارك، وزيرة الثقافة التي عُيِّنت في التعديل الوزاري، الذي عرفته الحكومة التونسية في الأسبوع الأول من العام الجاري.
عاصمة الثقافة العربية مبادرة الـ «يونسكو» المنطلقة منذ العام 1966، بعد اقتراح المجموعة العربية في اجتماع «اللجنة الدولية الحكومية العشرية العالمية للتنمية الثقافية» في باريس، في العام 1995. تظاهرة خصّت تونس العاصمة باحتضانها منذ العام 1997، التي عبّرت عن مدلولات إنسانية، منها أن الثقافة عنصر مهم في حياة المجتمع، ومحور من محاور التنمية الشاملة. رسمت الأهداف العديدة، كتنشيط المبادرات الخلاّقة، وتنمية الرصيد الثقافي، والمخزون الفكري والحضاري للمدن المضيفة، وإبراز قيمتها الحضارية، ودعم الإبداع الفكري والثقافي، تعميقاً للحوار الثقافي والانفتاح على ثقافات وحضارات الشعوب، وتعزيز القيم والمبادئ الإنسانية، كالحبّ والتسامح والسلام واحترام الخصوصية الثقافية.
بعد مدينة قسنطينة الجزائرية، تحطّ الثقافة العربية رحالها في مدينة صفاقس. سيكون تشرين الأول ثقافياً، بداية من 23، في تونس والعالم العربي. في تعبير لرئيس الهيئة المنظّمة سمير السلامي، اختير هذا التاريخ حتى تتوفر الفرصة لسكان المدينة للتشارك في عرسها الثقافي. يقف برنامج الفاعلية الثقافية على 3 محاور رئيسية، تنطلق من تحويل الكنيسة الكاثوليكية التي تتوسّط مدينة صفاقس إلى مساحة ثقافية متكاملة، تحتوي على مكتبة رقمية ومسرحٍ يضمّ نحو 200 مقعد، وفضاءٍ عصريٍّ مخصّصٍ بالعروض السينمائية، إلى جانب تحويل واجهة المعلم إلى لوحات فنية تشعّ بضوئها ليلاً للتعريف بصفاقس العاصمة الثقافية.
لا تكتفي التظاهرة بهذا الحدّ. فللمدينة العتيقة مكانتها الراسخة في التاريخ التونسي، وفي نفسية السكّان المحليين. هي التراث المميّز، الذي ينتظر أن تعلنه الـ «يونسكو» إرثاً إنسانياً يجب الحفاظ عليه. هو سور المدينة وحارسها الذي يعود إلى الأمير أبي العباس محمد الأغلبي في القرن الـ 9 ميلادي، سيكون الإيقونة المضيئة بتقنيات متطورة تحوّله إلى شاشة عرض كبيرة تختزل كلّ ملحمة عايشت مدينة صفاقس، وتحتفل بكلّ أعلامها وأبطالها التاريخيين، في الفنون والثقافة والعلم والمعرفة والسياسة والاقتصاد.
لصفاقس واجهتها البحريّة كذلك. هذا ما عملت عليه لجان التنظيم للتظاهرة الثقافية، إذ سيتمّ تهيئة شاطئ «القراقنة» ليكون جغرافيا للتجوال والفسحة والترفيه، وليتصالح الأهالي مع شواطئهم. كما عملت هذه اللجان على ضبط عشرات المحاور لندوات علمية تنقّلت محاورها بين البحر والمرأة والطفل والإعلام والتراث الأثري والإبداع الفني والثقافي، واستقبال مشاريع المسرح والسينما والموسيقى.
تحت شعار «الثقافة توحّدنا وصفاقس تجمعنا»، ستولد في صيف العام 2016 عاصمة جديدة للثقافة العربية. هي اللامركزية الثقافية تحتفي ببوابة الجنوب (صفاقس) مدينة الأعمال والاقتصاد. التحضيرات على أشدّها، لكن المال يبقى العائق الأهم ربما. فالميزانيات المرصودة تصل إلى 10 ملايين دينار تونسي، بحسب الأرقام المتداولة في الإعلام التونسي. هذا مبلغ لا يمكنه تغطية مصاريف التظاهرة الثقافية كما تمّ التخطيط لها. تبقى الرفع من القيمة المالية رهينة الدولة ومؤسساتها التي تعنى بمثل هذه المشاريع ومساهمات رجال الأعمال والقطاع الخاص.
يبقى الرهان في تونس الجمهورية الثانية ثقافيّاً بامتياز، وتحدّ للدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، لكسب رهاناتها في ظلّ مجتمع يهدّده خطر الإرهاب، والرجعية بين فينة وأخرى. تبقى مجمل المدن والجهات، عدا تونس العاصمة، خالية من مؤسّسات هي ضرورية لتصاحب المجتمع في كلّ لحظات تطوّره، كالمسارح وقاعات السينما. قد تكون الإجابة في كلّ شبر من تونس، أن هناك داراً للثقافة وأخرى للشباب. للأسف، هم بالمئات، لكن الثقافة ليست الجدران التي يأبى المواطن حتى الاقتراب منها. إنها الحيطان تلتقي بالأفكار الجديّة والاستراتيجيات الهادفة النابعة من مشروع دمقرطة الفنون والفعل الثقافي.