كان ذلك منذ سنوات لما التقيتك في مناسبة عيد وطني في سفارة أجنبية بالجزائر العاصمة، كان الوقت صيفا، تبادلنا حديثا شيقا، سألتك عن حياتك ككاتب بين الجزائر وأوروبا، تحدثنا قليلا عن ماضيك كمستشار لوزير الصيد على ما أتذكر، الإخواني بوجرة سلطاني، قضيت نحو أربعين سنة من عمرك في الوظيفة الحكومية كإطار سام، قلت أشياء جميلة عن سلطاني، كنت تتحدث بلباقة وهدوء، وكنت معجبا بلقائي التلفزيوني أثناء الحملة الانتخابية لعام 99 الذي حدثت فيه مواجهة صاخبة بيني وبين المترشح للرئاسيات عبد العزيز بوتفليقة آنذاك، تحدثنا أيضا في تلك الأمسية في الأدب الروائي الجزائري المكتوب بالفرنسية وفي المسرح، وأيضا تكلمنا طويلا في الإعلام والسياسة، بصراحة أعجبت بدماثتك وتواضعك وحسك المرهف وأنت تتحدث عن أيامك السابقة في بومرداس وعن ابن بلدتك الكاتب الروائي الخجول مثلك رشيد ميموني، وتقاسمنا الإعجاب بإنسانية ميموني الذي كانت تربطكما علاقة أكثر جذرية وعمقا وحميمية مما تربطني به، فعلاقتي به كانت عابرة وبسيطة، من يوم التقيت به لأوّل مرّة في دار النشر نفسها التي نشرت بها روايتي الأولى "ذاكرة الجنون والانتحار" "لافوميك" لصاحبها الذي تناساه اليوم الجميع، السيد بوناب أصيل غرداية، وقامت بإعادة روايتيه الشهيرتين "النهر المحول" و"طومبيزا"، تكرّرت لقاءاتنا التي تحكمت فيها الصدفة عدة مرات، وفي مناسبات جميلة. أذكر أنني على رغم اختلافاتي مع تصريحاتك الصحفية التي كثيرا ما كانت متحمسة لأيام الجزائر الكولونيلية، أخذت المبادرة أن أجعل من روايتك المثيرة للجدل "قرية الألماني" الحدث الرئيس للعدد الأول من "ألجيري نيوز"، غامرت بذلك وواجهت العديد من الانتقادات لكنني كنت سعيدا لأنني تجرأت على وضع ملف حول الرواية، حررته أهم الأقلام الثقافية والإعلامية بالجزائر المشهود لها بالصدقية والحرفية، للأسف لم تكن أنت وفيا لوعد بإجراء الحوار مع الجريدة، واعتذرت لي بوجودك بمطار برلين وظروف الرحلة التي لم تسمح لك بالوفاء بوعدك لي. على كل حال تفهمّت الظروف، إلا أنّ ما فاجأني قولك بعد أسبوع في حصة ثقافية براديو "فرانس كيلتير"، إنّ جريدة جزائرية قد تهجمّت عليك، ولم يكن ذلك صحيحا البتة وواجهك بالحقيقة لحظتها أحد محرري الملف وكان الكاتب وصاحب دار البرزخ، في الحصة ذاتها، ثم تحادثنا عبر الهاتف فيما بعد، وقلت عندئذ إن والدتك قد شعرت بالخوف عندما قيل لها إنك على الصفحة الأولى من الجريدة، فظنت ذلك أمرا سيئا، لم تكن مقنعا، لكن تجاوزت ذلك، ولم نتحدث بعدها إلا قليلا عبر الهاتف، وكنت أتابع عن كثب رواياتك، وآخر ما كنت قرأته لك "شارع داروين" وروايتك التنبؤية بالنهاية الكارثية على الطريقة الأوروبية، وما كان يثير فعلا تصريحاتك الممالئة للدوائر اليمينية الفرنسية القريبة من الموالين للسياسة الإسرائلية والنوستالجيين من الفرنسيين للجزائر الكولونيالية، كنت تقول ذلك بلذة كأنك ابن كولون متشدد، على الرغم من أنك كنت ابن أنديجان في عين الكولونيالي، وكنت أتساءل بيني وبين نفسي ما الذي يجعلك تجلد ذاتك بهذه المازوشية؟، ما الذي يجعلك تتفانى في إثبات عبوديتك الطوعية لسيدك الجديد الذي ارتضيته وأنت في كامل وعيك وفي أوج نضجك الفكري؟، إلهك المقدس الذي له الطاعة والانسياق، وتفعل ما في إمكانك في سبيل إرضائه؟، لم تعد تصريحاتك تثيرني لأنها أصبحت سمجة، بذيئة وفاقدة لكل مذاق، لم تعد تثير فضولي ولا غضبي لأنني كنت آراها تصريحات وفق الطلب، وصلاحيتها سريعة الانتهاء، لكن أن تنزل إلى قاع الجحيم للمس بشرف رجل هو من أشرف الرجال، رجل هو الشحاعة عينها، والاستقامة الثورية عينها، والنبل عينه، رجل الثورة في صفائها الإنساني ونقائها الأخلاقي، رجل اسمه العربي بن مهيدي، ومعركة اسمها معركة الجزائر، معركة كانت عنوان الاستعادة الحية لبلد مسروق وشعب مغتصب، لم يعد للكلام من جدوى، ولا للجدال من معنى، فقد اخترت الرماد، أما النار فقد تبقى أبدا أزلية تمزق الظلمات، ظلمات الاستعمار، لكن أيضا ظلمات العبوديات، كل العبوديات منها عبوديتك الطوعية أيضا سيدي، الكاتب المتنكر لبني جلدته بوعلام صنصال