بمجرد
الاقتراب من السواحل الجزائرية، أو كما كانت تسمى في عهد السلطان سليمان
عاشر سلاطين الدولة العثمانية، "لؤلؤة المتوسط" يحاصرك تاريخها العريق من
كل جانب، فشواطئها لا زال يفوح منها عبق الأصالة ولا زالت قصورها وحصونها
المنيعة التي كانت يوما ما تحمي سواحل مملكة سيطرت على قارات العالم الثلاث
تحكي أساطير دايات، رياس وباشوات، مروا من هنا يوما. آثار صمدت في وجه
التغيرات المناخية والسياسية، قبل أن تعصف بها أمواج الانحراف والضياع على
يد شرذمة من الشباب اتخذوا من التاريخ مرفأ لممارسة شذوذهم الجنسي وتعاطي
المخدرات، عائلات شيدت عليها بيوتا قصديرية. "الشروق" زارت معالم أثرية في
الجزائر وشهدت لحظات احتضار التاريخ.
استطاعت
الدراما التركية في فترة وجيزة أن تروج للسياحة في بلدها، فحققت عائدات
قدرها 65 مليون دولار، ولعل العمل التاريخي المصور "حريم السلطان" في
أجزائه الثلاثة جعل من القصور العثمانية محور زيارات السياح من كل أصقاع
الأرض، فجميع الوكالات السياحية أصبحت تضع في واجهاتها برامج متنوعة تحوي
زيارات لقصر "توبكابي"، قصر "مرمرة"، "مانيسا"، ضريح السلطان سليمان وزوجته
"خريم". وهو ما جعلنا نعيد النظر في المعالم الأثرية في الجزائر والتي لا
تقل جمالا وعراقة عما ذكرناه سالفا تتقدمها الحصون وأبراج المراقبة التي
أمر"القائد خير بربروس" ملك البحار تشييدها بعد معركة الجزائر التي توفي
فيها شقيقه "عروج" وحكام العاصمة ببنائها لمراقبة الساحل وحمايته من الاعتداءات الأجنبية.
معلم أثري في شاطئ الباخرة المحطمة يتحول إلى مرحاض عمومي
جولتنا
قادتنا إلى برج أثري بشاطئ الباخرة المحطمة ببرج الكيفان، تفاجأنا عند
اقترابنا من الشاطئ ببقايا برج تعود إلى الفترة الاستعمارية الإسبانية. بني
في سنة 1510 م، ثم أعاد العثمانيون ترميمه ليحوله الجزائريون إلى زريبة.
صخوره تآكلت بسبب الرطوبة إلا أنها لا زالت صامدة في وجه التغيرات المناخية.
اقتربنا
منه فلم نجد أي حارس على المدخل، فالمنطقة شبه معزولة ولا يزورها سوى
أبناء المنطقة وعشاق البحر، فبمجرد دخولنا وتجولنا فيه لمسنا الطريقة
العثمانية في بنائه، فكل غرفة تنتقل من ضيقة إلى أخرى أوسع، السقف والنوافذ
شيدت بأقواس وهي رمز الحضارة العثمانية، غير أن ما لفت انتباهنا، بالإضافة
إلى روعة المكان وجماليته، رائحة "البول" التي طغت على المكان وشوهت مظهره
حتى أنك لا تستطيع التنفس. وفي الجهة المقابلة بقايا قارورات الخمر، أكياس
نفايات منتشرة.
وكلما
توجهنا إلى داخل البرج اصطدمنا ببقايا ثياب رثة بالية وأغطية. عبر سلالم
ضيقة صعدنا إلى السطح لنشاهد نوافذ المراقبة والاستطلاع، على طول هيكله
بنيت فتحات تنصب عليها المدافع التي كانت تقصف كل سفينة تقترب من الشاطئ
دون ترخيص. التقينا إحدى السيدات كانت برفقة ابنها الصغير العائد من
المدرسة والذي صمم على زيارة القصر التركي كما يسميه سكان المنطقة، وأضافت
السيدة أن البرج يتحول إلى مزار من قبل السياح في فصل الصيف. أما أحد
السكان فأكد لنا على أنه مهمل منذ سنوات ولا أحد يقصده سوى "السكيرين"،
وأردف قائلا: لقد كانوا يربون فيه المواشي، أبقارا وخرفانا،غير أن أشخاصا
طلبوا من الموالين إخلاءه ليتحول اليوم إلى مرحاض عمومي وحانة لتناول
الخمور وتعاطي المخدرات.
"قصر بربروس" من إقامة لحماية إمبراطورية عظيمة إلى مساكن عشوائية
تزخر
منطقة الرايس حميدو (لابوانت) بمعالم أثرية تضرب في جذور الحضارة
الجزائرية العثمانية والاستعمارية، لا زالت معالمها شاهدة إلى يومنا هذا
كقصر أكبر قادة البحار "الرايس حميدو بن علي"، قصر "لافيجيه"، "قصر بربروس"
أو كما كان يطلق عليه في الماضي برج "الذبان" الذي أمر بتشييده "بربروس"
في الفترة الممتدة ما بين 1929م إلى غاية 1534 م، فقد كانت السفن قبل
مرورها في البحر المتوسط تدخل خليج الجزائر وتستقر في الميناء لتفتيشها فإن
كانت تحمل سلاحا أو أي بضاعة ممنوعة يتم تفجيرها فورا.
ويعرف
أيضا بـ"برج الذبان" لأن الجيش الانكشاري كانوا يلقون نفايات الطعام
فيتجمع من حولهم الذباب. قصدنا القصر الذي شيده القائد "خير الدين بربروس"
قبل مئات السنين للحفاظ على أمن الساحل بعد معركة استرجاع الجزائر التي
توفي فيها شقيقه "عروج"، فعلمنا أن الحديقة الكبيرة التابعة للقصر قد
استولت عليها البلدية وشيدت عليها مبناها، أما القصر الصامد المبني بطريقة
فريدة تجلب الناظر إليه منذ أول وهلة أخبرونا أنه قسم لثلاثة منازل فوضوية،
تجولنا داخله وكأن الماضي لا زال هناك ولم يبرحه أبدا متجليا في تقنيات
عثمانية مذهلة في بناء الأبواب والنوافذ المقوسة والأسقف أيضا، والمداخل
المنخفضة جميعها تعكس التجربة العثمانية الفريدة في تشييد المطبخ والغرف
التي ينتقل إليها عبر مساحة ضيقة لتصل لأخرى أوسع ومداخل للجواري وأخرى
للبشاوات.
ورغم
أن جدرانها تآكلت وأوشكت على الانهيار إلا أن هيكلها المتين جعلها تواجه
الرطوبة بكل تحد. عبر سلم خشبي يصل للأعلى تشاهد الساحل الجزائري على مد
بصرك ومراكز نصب المدفعيات، فقد أكدت لنا إحدى المقيمات داخله على أنها
وجهت عدة نداءات لوزارة الثقافة ووالي ولاية الجزائر، لترميم البرج أو ترحيلهم إلى سكنات أخرى وتحويله إلى متحف غير أنها لم تلق آذانا صاغية.
برج الكيفان من حصن تركي إلى شاهد على حركة بيع الخضر والفواكه
يعد
"الحصن التركي" المشيد فوق صخرة لحماية الساحل الجزائري من الحملات
الصليبية الأوروبية من أشهر المعالم في منطقة "برج الكيفان"، فهو يتوسط سوق
الخضر والفواكه وشاهد آخر على ما آلت إليه المعالم الأثرية في الجزائر.
طرقت مسامعنا الكثير من حكايات البرج الذي أمر ببنائه الباشا محمد كردوغلي
وأنهى أشغاله الباشا جعفر، ولا زالت برج الكيفان تحمل اسمه بعد أن أطلق
عليها المستعمر اسم "فوردلو" لتسترجعه بعد استعادة السيادة الوطنية. قصدنا
شاطئ عروس البحر فحاولنا المرور عبر السوق الفوضوي غير أن الباعة رفضوا
السماح لنا بذلك متحججين بقيام السلطات بتهديم السوق وهو ما رفضوه فتجمهروا
أمام المدخل غاضبين. اضطررنا إلى سلك الطريق الموازي للبحر فسرنا وسط
جماعات العشاق والسكارى وكنا كلما ازداد شوقنا إلى مشاهدة السرح التاريخي
تضاعف خوفنا من الأشخاص الذين قابلناهم في طريقنا لنصل أخيرا إلى غايتنا
المنشودة.
لكن
ما وقع عليه نظرنا صدمنا بالفعل فقارورات البيرة، الخمر، النفايات
البلاستيكية، بقايا الخضر والفواكه.. احتلت مساحات واسعة من محيط الحصن
وبوابته. ورائحة تعفن كريهة تنبعث من السوق الفوضوي المجاور له، وعندما
هممنا بالتصوير تفاجأنا بشاب في مقتبل العمر، علمنا فيما بعد أنه الحارس
يمنعنا من التقاط الصور طالبا منا الترخيص، فاستطعنا بعد جهد جهيد إقناعه
بأننا نريد التقاط صور تذكارية فقط لا غير فسمح لنا.
وبعد
مفاوضات ماراطونية أقنعناه بضرورة إلقاء نظرة داخله فأذن لنا، وداخله
صادفنا أكياسا، علبا ونفايات.. وكان بعض الباعة قد أخبرونا أن هناك من
التجار من يخفي بضاعته داخله، الأمر الذي جعل الحارس في وضعية حرجة لا يحسد
عليها فأبلغنا أن الأمر يتعلق بمعدات لإعادة ترميم الحصن وأن مهندسين
ومختصين سيعاينونه بعد قليل وعلينا الخروج فورا، تركنا التاريخ يلفظ أنفاسه
الأخيرة وسط السوق ورحلنا.
مسؤول الاتصال بمديرية الترميم وحفظ الآثار: يوجد أكثر من 100 معلم أثري في العاصمة غير مصنفة حولت إلى أوكار للفساد
أكد
السيد "بن مدور محمد" مسؤول الاتصال في مديرية الترميم وحفظ الآثار على أن
العاصمة تزخر بالعديد من المعالم الأثرية، ما يفوق 100 معلم أثري غير
مصنف لفترات مختلفة: الرومانية، العربية، العثمانية، وهذه المعالم تمتد من
فترة ما قبل التاريخ إلى الحقبة الاستعمارية الفرنسية، وهي فترة أثرت بشكل
كبير في تاريخ الجزائر ولا زالت معالمها قائمة إلى حد الساعة، ومنها
إقامات لجنرالات فرنسيين تم الاستيلاء عليها بعد الاستقلال وحولت إلى مساكن
أو إدارات دون أن يمسها التصنيف، معظمها في طريق الزوال.
وأوضح
مسؤول الاتصال أن البرج الإسباني بشاطئ الباخرة المحطمة الذي تم تحويله
إلى زريبة لتربية المواشي وقبلة للمنحرفين، و"قصر بربروس" في الرايس حميدو
الذي بنيت عليه سكنات فوضوضية ليسا مصنفين كمعلمين أثريين. وقد تم تقديم
ملفهما إلى وزارة الثقافة وهو قيد الدراسة، أما فيما يخص "الحصن التركي"
ببرج الكيفان فذكر محدثنا أن وزارة الثقافة شرعت بالتعاون مع مختلف
الوزارات والقطاعات المعنية في تهديم السوق لتنظيف المنطقة المحيطة به ثم
الشروع في ترميمه وفتحه أمام الزوار بعد تحويله إلى متحف، مضيفا أن الأشخاص
الذين سكنوا المعالم الأثرية هم المسؤولون المباشرون في انهيارها بسبب
أعمال البناء العشوائية.
وطالب
"بن مدور" وزارة الثقافة بإعادة النظر في البرنامج المعتمد لتصنيف الآثار،
فالتصنيف الأول كان في فترة الاستعمار في سنة 1887، الثاني وضعه
الجزائريون بعد الاستقلال سنة 1964، غير أن المطلع عليهما يكتشف أنه لم يضف
إليهما شيء. داعيا إلى التدقيق والتحري الميداني خلال العمل والاستعانة
بعلماء الأركيولوجيا والمختصين من ذوي الخبرات الجزائرية، وليس الاكتفاء
بالوثائق، مشيرا إلى أن ضريح الولي الصالح "سيدي هلال" أسفل القصبة،
و"الزوج عيون" تعود إحداهما إلى القرن السادس، فترة حكم القائد الروماني
"إيكوزيوم"، والثانية لفترة "بني مزغنة" يجب أن تصنف ويعاد لها الاعتبار.
http://www.presse-algerie.net/open-110005-echchorouk-elyoumi.html