الخميس، أكتوبر 12

بن يحي الوزير المثقف المتواضع


شهــــادة
بن يحي الوزير المثقف المتواضع
بقلم: مصطفى ماضي
بدأت النضال السياسي وأنا طالب ثانوي، حدث ذلك في السبعينات، حيث كنت أناضل من أجل التعريب، خاصة تعريب التعليم الجامعي . بدأ هذا النضال عندما بدأنا التطوع. وكان التطوع كان مقتصرا على المفرنسين، من المنتمين لحزب الطليعة الاشتراكية )الباكس( ، في حين لم نكن نحن منضوين تحت لواء هذا الحزب..لهذا كانوا ينظرون لنا بعين الريبة والشك .
وقد بدأنا نستعرض عضلاتنا السياسية سنة ,1971 عندما قمنا في الجامعة بأول إضراب من أجل التعريب. وواصلنا المشاركة في لجان التطوع، وكنا محظوظين لأننا في كل خرجة تطوعية نحظى بشرف اللقاء مع بومدين للنقاش وطرح الأسئلة عليه، وكان محمد الصديق بن يحي، وزير التعليم حينها، يحضر اللقاء. وكانت الأسئلة تحضر من قبل المشرفين على التطوع من المنتمين للباكس وتوزع على من يطرحها. قدم لي سؤال التعريب لأطرحه، لكنني صغته صياغة أخرى. وأتذكر أنني سألت بومدين، الذي كان مع بن يحي، سنة 1974 ونحن في الصنوبر البحري، قلت له: والتعريب سيد الرايس. فلم يدعني عبد المجيد علاهم، الذي كان في التنظيم، أواصل، لكن بومدين قال له: دعه، وقال لي: لسنا من يعرب بل أنتم. وتناقشنا حوالي خمس دقائق. فضحك بن يحي، لأننا قبلها كنا شكلنا لجنة والتقيناه، وتفاوضنا معه حول تعريب علم النفس، وساعدنا الجنيدي خليفة ومولود قاسم -حمه الله-. فتذكر ذلك وقال ضاحكا: لازلت مع التعريب، أنتم تعرقلون التطور..ولكن تعريبك وتعريب المتطوعين أقبله. كان يظن أن لا أحد من المعربين مع المتطوعين .
أذكر أننا التقينا مع بن يحي بعد إضراب في الجامعة للمطالبة بتعريب علم الاجتماع سنة ,1975 فدعانا بن يحي للتفاوض ..
والفترة كانت حاسمة...فكيف تتجرأ جامعة وطلبة في عهد بومدين على الإضراب. حين ذهبنا للقاء بن يحي، وكان مقر وزارة التعليم العالي حيث دار الصحافة الطاهر جاووت اليوم..ومكتب بن يحي هو الآن قاعة الندوات في دار الصحافة..وبقينا نتفاوض من الخامسة مساء إلى العاشرة ليلا. وكان بن يحي مدخنا كبيرا، وأنا كذلك. ونفدت سجائري فكنت أدخن من علبة سجائره، وحين أشرفت أن تفرغ قال لي":توقف! لقد أكملت كل سجائري" ضاحكا، وسحب العلبة. وكنت الوحيد من بين المعربين في وفد الطلبة· وقد طلب بن يحي من ممثلي الباكس الحضور معنا، وهذا ما ألومه عليه، فقد كان باستمرار متعاطفا مع الباكس .
أطلنا في الاجتماع فأشار بن يحي لسائقه، شخص من الجنوب يدعى موساي أو موساوي، الذي كانت تربطه به علاقة خاصة بالمغادرة إلى بيته، وأخبره أنه سيتكفل بنقلنا إلى مقار سكنانا! وبالفعل، أنهينا الاجتماع في حدود الساعة العاشرة ليلا...والسي بن يحي··· وزير التعليم العالي ذاته···ونحن الذين قمنا بإضراب والذي يعتبر فوضى حينها، وتفاوضنا معه لساعات وتجادلنا في أمور كثيرة...يقوم بإيصالنا الواحد تلو الآخر إلى بيوتنا.. ليلا بسيارته وهو يسوق بنا. أتذكر أننا أوصلنا البعض إلى الأبيار والقبة، وعندما فرغت السيارة -وأتذكر ما سأقول ولن أنساه أبدا- كنت أجلس في الخلف، فطلبت منه: سيدي الوزير هل آتي لأجلس من الأمام، وذلك احتراما لشأنه. ولكنه رد: لا داع، لقد شارفنا على الوصول إلى الحي الجامعي للقبة أليس هو مقصدك. أجبت: نعم .
وأضاف بن يحي بالعامية: أنت محظوظ هاو وزير يسوق بيك. فقد كان إنسانا متواضعا جدا .
لم يكن حينها متزوجا، وكنا نقول عنه أنه تزوج بالجزائر، فهمه كان الجزائر، وكان محبوبا لذلك وحتى اليوم ، فالجميع يقول أنه كان أنظف واحد، ويحبونه جميعا، فقد كان رجلا صاحب مبادئ وأخلاق .
وأتذكر حادثة أخرى بعد هذه، فقد كنا في حملة تطوع شتوية في تيبازة، وشاءت الأقدار أن توفي أحد المتطوعين يدعى بولفاني، كان طالبا في علوم التربية...توفي إثر سقوطه في منحدر صخري عال، وفي الظهيرة جاءنا محمد الصالح دمبري الذي كان أمينا عاما لوزارة التعليم العالي، وأشبعنا لوما .
وقد غضبنا، وكنا مصدومين لأن زميلنا توفي ولا ندري ما نفعل. وفي الثالثة والنصف صباحا، جاء بن يحي مع سائقه الذي كان يلازمه، فقد كان صديقه أيضا، وكلمنا بهدوء مستفسرا عن ظروف الحادث، وطمأننا: لا تقلقوا، هذه أمور تحدث. وتأثرنا بهذا الاختلاف في التعامل، كيف تحدث دمبري الأمين العام معنا، وكيف جاءنا بن يحي الوزير على الثالثة والنصف صباحا وحدثنا بكل هدوء ليخفف عنا .
بن يحي من بين الناس القلائل الذين لم يلقوا التكريم الذي يستحقونه، كأن الناس نسته، بينما هو من أنظف الشخصيات سواء في الثورة أو خلال مفاوضات إيفيان، وبعد الاستقلال. كان من أرسل نخبة معربة لتتكون في الجامعات الأمريكية والفرنسية، كان مفرنسا ولكنه غير فرونكوفيل .
بن يحي كان تقريبا الوحيد الذي يحمل مشروع مجتمع في رأسه، والشيء الوحيد الذي لا أتفق معه فيه، هو إصلاح التعليم العالي، إذ ألغى الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا من نظرة ماركسية وربما بتأثير من مستشاريه، إلى أن الأنتروبولوجيا علم إستعماري .
بن يحي هو وزير التعليم العالي الوحيد المثقف، بمعنى المفهوم، منذ الاستقلال إلى يومنا هذا... وأنا أتحمل مسؤولية ما أقول

ليست هناك تعليقات: