الخميس، يناير 31

اوراق


بلوك نوت
يكتبها:احميـــدة عيـــاشي
الأربعاء 23 جانفي 2008
جورج كلمنصو
منذ أسابيع تعرفت في أحد مطاعم الجزائر على شاب من أقصى الجنوب·· هو شاب غير عادي، ذو ثقافة واسعة وجرأة منقطعة النظير·· وله طريقة استفزازية في الكلام، لكن من نوع الاستفزاز الإيجابي·· من أول وهلة تثيرك شخصيته التي تتميز بالذكاء والقوة·· لا يميل كثيرا إلى السياسة، لكن أسرته وقفت إلى جانب بوتفليقة في رئاسيات ...99 قال لي أنه لم يقم بواجبه الانتخابي طيلة حياته إلا عندما تقدم بوتفليقة إلى الرئاسيات·· عائلته وقفت إلى جانب بوتفليقة يوم كان في المالي·· وروى لي قصة مؤثرة عن والده الذي لعب دورا في حرب التحرير، مفادها أن والده في بداية الستينات
عندما احتدّ الصراع بين الكولونيل شعباني والعقيد هواري بومدين·· وانتهى هذا الصراع بتنفيذ حكم الإعدام في العقيد شعباني، الذي لم يكن يبلغ من العمر آنذاك أكثـر من 27 سنة·· وقد تم ذلك في عهد أحمد بن بلة، قرر والده مغادرة الجزائر باتجاه مالي لأنه كان محسوبا على جماعة الكولونيل شعباني·· ولم يعد والده إلا في نهاية الستينيات إلى الجزائر·· كان والده معروفا عند من كانوا موجودين في جهة الجنوب أيام حرب التحرير، منهم شريف مساعدية وادراية الذي كان مسؤولا عن الأمن وبوتفليقة·· وعندما قرر والده في 74 القدوم إلى الجزائر العاصمة، اتصل بادراية، لكن هذا الأخيرلم يستقبله·· وشعر الوالد (المالطي) بالإهانة فعاد إلى مسقط رأسه متألما ومتأثرا·· ومات بعد ذلك بشهرين·· وضعت أسرة هذا الصديق كل إمكانياتها في سبيل أن يصبح عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية، لكن هذا الصديق يشعر اليوم بالألم لأنه يرى كل الانتهازيين الذين كانوا يخشون استقبال بوتفليقة في الأيام العسيرة، أصبحوا يتصدرون الواجهة···
سألني هذا الشاب ماذا بالإمكان أن أوصي به عندما كان منذ أسبوع في فرنسا، فقلت له، كتابا جديدا عن كلمنصو لميشال وينوك·· ولم تمر إلا أيام قلائل حتى اتصل بي هذا الشاب، وقال لي، أنا في انتظارك هنا بالعاصمة لأعطيك الكتاب الذي أوصيتني عليه··
أثار ذلك مشاعري·· وعندما التقيته في شقته العاصمية وجدت لديه شخصين مهمين، تناقشنا في السياسة، ثم قال لهما·· أنا سعيد، لأن احميدة هو أول جزائري، لم يقل لي آتني بحذاء أو شيء مادي، بل كتاب عن كلمنصو·· وسألني أحد ضيفيه ومن كلمنصو هذا؟! فقلت له أن جورج كلمنصو أعتبره من أهم الشخصيات الفرنسية المعاصرة، فقد كان أحد المناضلين العنيدين من أجل العدل والعدالة في فرنسا، وفي ذات الوقت كان بمثابة الأب الروحي لساركوزي يوم كان هذا الأخير وزيرا للداخلية، وإضافة إلى كل ذلك، فإن جورج كلمنصو تمكن من إنقاذ فرنسا أيام الحرب···
ـ 2 ـ
دعاني صديقي فضيل بومالة للمشاركة في حصته ''لكل قارئ كتاب'' وسأحضرها هذا الخميس في قاعة عيسى مسعودي بمقر الإذاعة الوطنية لأتحدث عن روايتي الأخيرة ''هوس''، لكن ما أبهجني في هذه الدعوة، هو التكريم الذي سيقدمه بومالة للزميل عاشور شرفي حول كتابه الموسوعي عن المثقفين والفنانين الجزائريين·
لقد تعرفت على عاشور شرفي في عام ,1985 في الخدمة الوطنية، ومنذ تلك الفترة وهو يشتغل بشكل دائب على مثل هذ العمل الرائع·· ورغم أن عاشور شرفي كاتب متواضع ولا يحب الأضواء، إلا أنني أعتبره أهم شخصية ثقافية خلال العشرين سنة الأخيرة···
كتابه الأخير، لابد أن يقرآ·· إنه أول مرجع للثقافة والفن في الجزائر···

ملف
روبورتاج
تحليل
الأثر
جمهورية سليم
عربنشي - كود
بحليطو
نظرة
أخبار و تقارير

تحقيق

محلي

رياضة

تقافة

دنيا طلبة

اسواق

حوار

جمعيات

أقلام

عاصمة نيوز

زووم

كرونيك

كتاب

الأرشيف أخبار و تقارير رياضة تقافة روبورتاج ملف جمعيات أقلام حوار الأحد تحقيق اسواق كرونيك تحليل كتاب زووم محلي دنياطلبة عالم نظرة بحليطو عربنشي - كود الأثر حوار عاصمة نيوز بلعباس نيوز

PH/ DjazairNews
افتتاح
فضيلة الفاروق
بشير مفتي
عندما نشرت روايتي الأولى /المراسيم والجنائز/ عام 1998 كان أول من كتب عن هذه الرواية مقالا قيما بمجلة لبنانية هي فضيلة الفاروق، ولا أذكر كيف وصلتني المجلة من طرفها، وشقت كل تلك المسافات لتقع بين يدي، وما لفت انتباهي أكثر في قراءتها هي اعتزازها بكوني كاتب جزائري جديد يولد للعالم، تحدثت عن ذلك بفخر واعتزاز أصابني بالخجل حينها، لم أكن أعرف عن فضيلة إلا أنها كاتبة قصة جريئة ومميزة، هكذا كان يخبرني من يعرفها من أهل قسنطينة، وأنها شدت الرحال للبنان بحثا عن تحققها ككاتبة وإنسانة، لقد عانت فضيلة كثيرا لتحقق رغبتها تلك، أو لتصل لما وصلت إليه اليوم، ولكنها بقيت وفية لنفسها، وصادقة مع جزائريتها، تتكلم بصراحة عما يثيرها أو يستفزها أو تشعر أنه معاد لقيمها العالية، تلك التي تخلص لها، وتعمل على أن تظل حاضرة بداخلها، وقد ترجمتها لسلوك خلاق، وليس مجرد كلمات فارغة، كثيرا ما أشعر بأن هناك من يتكلم على الجزائر بالسوء لأغراض أخرى، أما فضيلة فتشعر أنها تتحدث عن وجع حقيقي، فهي كائن رقيق، وأي شيء بسيط قد يؤثر فيها، يذكي ألمها ويزيد من نزيفها الذي لم يتوقف حبا لبلدها الذي يبدو أنه كلما ابتعدت عنه زادت تعلقا وهياما به، والذي يعاقب من يحبه بالفعل بالتجاهل والجحود والنكران·
نعم، فضيلة بخير في بيروت، وآخر مرة التقيت بها كانت مستمتعة بحياتها ومشاريعها ولكن لم تتخلى عن جواز سفرها الأخضر حتى لو كان هناك ألم سري يجعلها تشعر بوطنها أكثر منا نحن الذين نعيش بداخله، ذلك أننا تعودنا على مرارته، وجحوده أما من هو بعيد فقلبه يتألم أكثـر منا بكثير·
لا أدري لماذا أكتب عنك يا فضيلة، ربما لأنني في كل مرة ألتقيك ببيروت اشعر بـأن إحساسك بالوطن الذي تنتمين إليه يتجاوزني أنا الذي أمكث به، أنا الذي تخلصت من أوهامه منذ زمن طويل، أو تخلص هو من أوهامي منذ زمن طويل، لقد بتر الجزء المبدع والنقدي منه بترا عنيفا، وترك من يغدق عليه مدائحه السخيفة، تلك التي لن تقدمه خطوة واحدة للأمام· أقول لك يا فضيلة مثلما قال صديق للشاعر أمل دنقل /ضع مسافة بينك وبين الواقع حتى لا تنكسر/ وحتى لا تنكسر قلوبنا يجب أن نكتب، ونهمل ما تبقى·

PH/ DjazairNews
شعر
مديحــــــــان
إسماعيل يبرير
مديحُ القلبِ
1
أتأمّـلُ الآن التّفاصيلَ الّتي ألقتْ
بقلبكَ نحوَ نارٍ،
أسألُ النّار الحزينة
ما الذّي يبكيك تصطفقينَ هلْ ؟
تخبينَ و الوجعُ اللّئـيمُ
لثامُهُ القانيُّ دفئ شفاهها
2
في قلبهِ الألم استوى
رمادهُ المتجمِّدُ المكتوبُ بالفضّيِّ مثل حكايةٍ
لا تعجبُ الأطفالَ
ترعبني البقيـّةُ و التّفاصيلُ الحقيرةُ
مثلَ كلّ العابرينَ، سآكُلُ الثلجَ المعتّقَ
ربما أنسى و أسلكُ أي دربٍ في الخيالْ
3
في القلبِ أزمنةٌ و جنّاتٌ و آفاقٌ و أنواءٌ
و دقاتٌ تجمّلُ وجهكَ الأبهى
و بحرٌ واحدٌ كالحب
أسألهُ السّباحةَ - يا لخبثـهِ -
يقبلُ الأنثى و يرفضني أنا
4
قد يصبحُ القلبُ الذّي في الصّدرِ
مثلَ يدٍ مغمّضةٍ مقمّطةٍ، هو الرّائي
و ينسُجُ عزفهُ الورديّ منْ
دمـهِ الدّفقْ
مديحُ التـاءِ خلسةً
1
هي لُعبتي
متنكّر في ثوب حرف أخرقٍ
و أُقاومُ الطّـفحَ الذّكوري انتبهتُ
إلى اندثارِ تنكري
2
وسطَ الذّكوريَ الذّي أرعاهُ
قبرٌ تائويٌ كلّما أطعمتهُ أنثى اشتهى
تلكَ التي في القلبِ أو في العينِ أو في الحضنِ أو···
3
التّاءُ معجزةٌ و ليست آلهـهْ
4
كيفَ استطاعَ الشّر أن ينسى الجميعَ
وظلّ يذكرُ رونقَ الأجسادِ اذْ
تبكي الحبيبةُ في فراش حبيبهاَ
5
أسيذكرُ الانسانُ
منفاهُ الغوايةُ يومها
ما من فُروقٍ بينها
هذي الحروفُ و يذكرُ الانسانُ
أنّـهُ سوفَ يلقى التّـاء في الموتِ القريبِ كأنها
كانت سُكوناً كان يهرُبُ نحوها
قصة
ضـــاوية
بشير خليفي
شـدّ بيده على شاهد القبر، مسترسلا في ذلك بتقفي شريط الذكريات الذي امتلأ في فارط الأيام صخبا وعربدة·· بدأت الحوادث أثناء عرضها في شاشة الذكريات مخضبة بالتفاصيل، كأحصنة سوداء تعدو بلا توقف، في ليل ماطر مخيف تعوي فيه الريح كذئاب جريحة·
لم يكن في باله أنه سيأتي اليوم الذي يتهاوى فيه أمام هذا القبر، بعيون مستغفرة دامعة، وبقلب مترع بالحسرة والقنوط·
- ترى ما الذي أوصلني لهذه الحالة؟
هكذا تساءل بمرارة تجاوزت الحلق، في هذه اللحظات وهو على أديم المقبرة، تساوت عنده الموت والحياة، بل في تأمله عشق الموت، وأحس بحنينها ولطافة أناملها حين تهدهده تحت الأرض حيث السكينة والهجعة الأبدية·
- /الموت راحة/ هكذا بدأ يحسّ، متذكرا زوجته التي سقاها المر بسبب مزاجه العكر وسطوته التي فاقت الحدود·
- / إيه ··/ يالضاوية/ رحلت وتركتني وحيدا في عالم لا يعرف الرحمة/·
وهو ينطق بوجعه إلى قرارة نفسه، أحس وكأن الأرض قد زلزلت زلزالها تحت قدميه، رانت الخيبة على قلبه، وأمسى ينوء تحت إحساس مرير بالهزيمة·
كان يتمنى أن يحضر الموت، بظلاله الوارفة البيضاء ليدثره بحنان كبير، ليحتفي به كعريس، ويأخذه بعيدا عن الجانب الظاهر من الأرض··· كان يتمنى أن يحضر الموت في احتفالية بالطبول لـيزُفّ نفسه من الداخل، وليطفئ بملء فيه جذوته التي أحفتها مرارات الأمس ·
- / ثم ماذا بعد، ماذا افعــل بحياة علـقمية أهدتني حسـكا أدمى جسـدي وروحــي·· فمنذ وفاتك يالضاوية، وأنا استشعر الذنب الشديد الذي افقدني حلاوة الحياة وجعلني أعيش أحزانا ملحيّة /·
هكذا تساءل وهكذا أجاب·
لم يعبأ في كل أيامه التي قضاها متسلطا، أن تأتي النهاية، وأن تقترب يده من شاهد القبر، مرتجفة مذعورة·· وأن تدمع عيناه ··
لطالما اعتبر البكاء صنيعة النساء، وأن الرجال لا يبكون، لكنه يبكي، يبكي بحسرة معوّضا في ذلك كل الدموع المؤجلة التي جمـّدتها القسوة في مآقيه وأوردة جسمه ··
يبكي من دون أن يستشعر شمس الخريف اللافحة، التي كانت تحضر وتغيب، وراء غيوم تمتص أمطارا مؤجلة·· ومن دون أن يعبأ بتلك الحركية التي كانت المقبرة تحياها، فهذا يرش بالماء قبرا وآخر يرش عطرا وتلك تقرأ أدعية وأخرى تبكي وتفضفض·
في هذه اللحظات غسـلت الدموع الأدران التي طالما سدت المباهج عن نوافذ نفسه، بدأ يحسّ بمعنى الانكسار، وأحس بدبيب اعترى جسمه، بدأ غريبا كمقدمة إيمان، أو تعب من جراء الذكرى العامرة بالدموع·
بدأ يستطعم مذاقا غريبا للحياة، لم يعهده في غابر الأيام ·· رأى زوجته مدثرة بالبياض تهديه باقة ورد ·· استشعر وهنا يعتريه ، بدأت الأشياء تختفي من ناظريه، انطفأت الأضواء التي طالما أحس أنها تزامن حياته ، توقفت تلك الخيول عن الجري، حمحمت معلنة عن الانقضاء، تحسّس قبعته وعاود احتضان الشاهد بيمينه، ثم أسدل جفنيه ليرى أطفالا صغارا يحلقون بأجنحتهم باسمين، بعدها غامت الأشياء عن ناظريه ثم غابت بالمطلق·
بالكاد أحس يده في محاولتها الأخيرة لكي تلتصق بالشاهد·
قصة قصيرة
ترجمة: سعيد خطيبي
القمر يحترق
صفية كتو
عام ,2222 كان ياسين يشتغل قائد المركبة الفضائية / عايدة 15/· مركبة نقل المسافرين، تابعة لشركة /الخطوط الجوية القمرية/
كانت المركبة تقوم، مرة كل شهر، برحلة، ذهابا و إيابا، إلى سطح القمر، ناقلة على متنها 500 مسافرا· كان مقر شركة /الخطوط الجوية القمرية/ متواجد فوق جزيرة اصطناعية تمت إقامتها وسط البحر الأبيض المتوسط عام .1999
ذلك اليوم، كان الانطلاق مبرمجا على الساعة الثانية زوالا بتوقيت غرينتش· قام القائد بإجراء بعض التجارب الروتينية· ثم قام بتفحص لوحة التحكم، بعد التأكد من تعداد ركاب الرحلة
أطلق برج المراقبة، في الوقت المحدد، إشارة الانطلاق· تمت كل إجراءات الإقلاع بشكل عادي·
انطلقت المركبة من القاعدة و اندفعت محلقة كطائر حر في الأجواء· كانت مليكة، مضيفة المركبة، تقوم بمهامها· كانت تجلس داخل مقصورة مجهزة بكاميرات تنقل كل شارة و واردة· يسمح لها النظام المستخدم بتقديم التعليمات دونما الحاجة للتحرك من مكانها· كان بإمكان الركاب مشاهدتها عبر مختلف الشاشات الموزعة بهيكل الطائرة الداخلي· كانت كل من المقاعد الخمسمائة من المركبة مجهزة بلوحة أزرار صغيرة تستخدم وفق تعليمات المضيفة· كما أن المسند كان مجهزا بلوحة تحكم·
موسيقى هادئة كانت تملأ مقصورة الركاب· موسيقى من تأليف ملحن أخصائي في الأمراض العصبية·
كان كل شيء يسير على ما يرام· غفى بعض الركاب و إسحب آخرون إلى الكتابة، و فضلت البقية طلب بعض الحلويات و المشروبات من الموزعات الأوتوماتيكية·
كان القائد ياسين، بمقصورته المعزولة، يراقب آلاته· يؤدي مختلف العمليات بسهولة· كان يعرف المركبة جيدا· في الحقيقة، كانت المركبة جزءا منه· يعاني لمعاناتها و ينتشي لسعادتها· لحسن الحظ، كانت في أحسن حال ذلك اليوم·
لم تكن /عايدة 15/، بالنسبة لياسين، مجرد آلة، بل رفيقا حساسا، يمنحه غالبية وقته· كأنما رابط عاطفي يجمع ما بين الطرفين·
- لهذا السبب ترفض الزواج! خاطبه ابن عمه يوما· كلما أعاد تذكر تلك الكلمات ينفجر قهقهة·
/صحيح، فكر ياسين، أنا سعيد هكذا· لست بحاجة لشيء آخر/· أغمض عينيه للتلذذ أكثر بتلك اللحظة، قبل أن يعيد فتح جفنيه قليلا· لم يكن وقت الحلم مناسبا· هزه صفير سريع· كان إشعار بخطر·
ردد، بعدها مباشرة، صوت رتيب و كئيب عبارة:/عودوا إلى الأرض!···عودوا إلى الأرض!···عودوا إلى الأرض!···/
أعاد ياسين، بسرعة، ربط الاتصال بالمحطة الأرضية، متسائلا بصوت حائر·
- هنا /عايدة 15/، ماذا يحصل؟
أجابه مسئول الأمن:
- القمر في خطر
انقبض لسان ياسين قائلا:
- أبإمكاني فعل شيء
- مع 500 راكب، هذا مستحيل!
- حقا! تعجب ياسين
- أتستطيعون الرجوع؟
- لا بأس!
لم يكن ركاب /عايدة 15/ على اطلاع بما يحصل· كانوا غارقين في عطر المقاعد، متفرجين على الشاشات التلفزيونية· مدركين، مسبقا، بأنه في حالة طوارئ سيأتي من ينبئهم· كما أن هنالك جهاز تواصل تحت كل مقعد، مما يشعرهم بأمان اكبر·
كانوا قد تخيلوا، قبل الأوان، وصولهم إلى القمر سالمين و ملاقاة الأهل و الأصدقاء الموجودين هناك·
نادى القائد على المضيفة و ابلغها، بلباقة، بالنبأ السيئ· كان يدرك بان خطيبها متواجد على نفس الرحلة· شحب وجهها، بينما امتلأت نظراتها هلعا·
كاد أن يغمى عليها· أجلسها القائد و طمئنها:
- سيقومون بكل ما في وسعهم لإنقاذ الوضع·
أعطاها قرصا ابتلعته بسرعة فاستعادت توازنها و وعيها·
- ماذا أقول للركاب؟ تساءلت
- يستحسن قول الحقيقة·
- مفهوم قائد· قالتها و هي تهم بالخروج من مقصورة القيادة·
استجمعت قواها و توجهت إلى مقصورتها· تأملت بعض وجوه الركاب مفكرة في المشاكل التي ستبلغهم إياها· نظرت إلى وجه امرأة عجوز ذكرتها بوالدتها· شجعتها تلك الملامح أكثر للقيام بمهامها·
تشجعت لمخاطبة الركاب بنبرة طليقة:
/سيداتي، ساداتي، كل واحد منكم منشغل بهمومه· فاعذروني أن اقطع أفكاركم لإبلاغكم بنبأ بلغنا للتو/
ادار الركاب الخمسمائة، بسرعة، أبصارهم باتجاه الشاشات· توقفت الوصلات الموسيقية· ساد الصمت المكان·
واصلت المضيفة، قائلة:
/أرجوكم لا تقلقوا! لا تبالغوا في قلقكم فلم تبلغنا، إلى حد الساعة، أية تفاصيل·
سألها احد الركاب، مستعينا بالميكروفون المتواجد بجانبه:
- ماذا يحدث آنستي؟
أجابته مليكة:
- سنعود أدراجنا
- لكن لماذا؟ تسال الراكب·
ترقب الكل الإجابة· تجلت ملامح القلق على كل الوجوه· هزت المضيفة مشاعر المسؤولية· خشيت حالة الفوضى و الرعب المنتظرة قبل أن تصرح:
- سأنبأكم بالحقيقة جد المتشعبة، لكن أوصيكم بالحفاظ على هدوءكم·
صرخ طالب متلهف:
- موافقين· اخبرينا بما يجري·
- هنالك خطر يهدد القمر· صرحت المضيفة أخيرا بنبرة حائرة
ما إن أكملت التلفظ بهذه العبارة حتى ساد الهلع المقصورة· بعد لحظة صمت، باردة و سريعة، بدأت تظهر الإشاعات و تمتد بسرعة·
كانت حالة الفوضى المتصاعدة تشبه الواد الهائج· مياهه العكرة التي تجرف كل ما يقف في طريقها·
تخيلت مليكة لو جن ركاب الرحلة الخمسمائة· أعادت الموسيقى و فرضت الصمت:
- باعتقادي انه من غير الضروري إثارتكم بهذه المشاكل· لن يفيد هذا بشيء· من جهة أخرى، أعيد و أؤكد بأننا غير مطلعين تماما عن الوضع· الهلع شعور عنيف يمنع التفكير السليم· يمكن أن يقودنا إلى كارثة· لا تنسوا إذا، حافظوا على هدءوكم· شكرا!
أدرك الجميع، نسبيا، صحة هذا الكلام· تلاشت تدريجيا الإشاعات· عاد الهدوء مشوبا بحالة كآبة مختلطة بخوف· استرخت مليكة على المقعد و أخذت تفكر في خطيبها· تساءلت عن حقيقة هذا الخطر، و كذا عن إمكانية إنقاذ الأشخاص المتواجدين على سطح القمر·
قام ياسين بالعملية الدقيقة المتمثلة في قذف عقدة الضغط· ثم قام بتعديل الأجنحة و تغيير الوقود· في النهاية، قام بإحداث فراغ في حزام الثقالة، فاندفعت /عايدة 15/ باتجاه الأرض·
على الساعة التاسعة مساءا، حطت المركبة على الجزيرة الاصطناعية بسلام· ما إن وطأت أرجلهم الأرض حتى وجه الركاب الخمسمائة مناظيرهم الاليكترونية باتجاه السماء، فأرعبهم مشهد القمر محترقا·
عن مجموعة ''الكوكب البنفسجي'' الصادرة عام 1975
PH/ DjazairNews
على المنصة
تنويعات على النص الفيروزي ··
عبد الوهاب معوشي
نايها المجروح، صوتها الذاهب نحو المدى اللامتناه، جرح الحكايا ووجع النشيد·· إن ديفا العرب فيروز تقولنا دوما·· تبعثنا من آخر نافذة من نوافذ أحزاننا، تقولنا دائما هذه السيدة الباذخة في اسوداد وشاحها، هي الأخضر الحلو·· وهي البيضاء في بياضات نصوصنا·· إن هذه /الديفا/ الأسطورة الخالدة كنغم داوود عليه السلام تملأ سماوات العرب وتجملهم، توحد شتاتهم الباقي وتجمعهم كغيمة راعفة، راعشة بالمطر والصيف وأساور البحر وسور الأناجيل،·
سدرة منتهانا ومنتهاك هي···
الرسالة الأولى في المحبة و الشجن،
خاتمة المواعيد المحلاة كسكر الجنة··
عطر الأمكنة وأنفاس الراحلين إلى الحب بمعاطف الكبرياء المؤتلق···
الكل يسألني عن هذه /الديفا/ المخلدة بالأوشام الهمجية في قلبي وقلب العرب، أستعذب السؤال وأستعذب بقاءها متكومة داخلي كموسيقى الفطرة، دفء الرحم الصادق، شرعة الوجود العربي بالتوازي والتقاسم والتداول·· الكل كأسنان المشط كما يعبر بذلك الشاعر الفلسطيني محمود درويش··
إن فيروزا يجب أن تستولي على الفضاء العربي، أن توقع على كل النصوص وتحظى بالسلطة الساحقة، إن فيروز هي الصوت الديمقراطي العادل الذي ينبغي أن تمنح له كل النجوم العربية بلا استثناء وكل البحور الشعرية المدوزنة على إيقاعات المشاعر العربية التي لم تعد صالحة للاستعمال إلا مرة واحدة وأخيرة هي الشدو الفيروزي إلى غاية التماهي الخلاق مع صدى القلب وحرقة القلب···
الحمامة التي طلعت من صوف الرحابنة الدافئ موشومة بالحكي وبالغرق في الحزن الجميل الذي يأكل رائحة ورياحين سريرك، الجميلة كلبنان القديم، تمطر شفافيتها هنا··· هنا في ضهر البيدر، في صوفر، في عالية، في بكفيا، في مقهى ادبيبو·· ينداح الصوت كقدس عتيقة، كمنارة مريم·· ينداح الصوت·· يسيل في القلب وفي عتمات الروح ليضيء كسورة الرحمان والفجر وكالضحى والقمر ومريم والكهف ( كهف الذاكرة الدامية)·· والانشراح·· سور وصور متماثلة رقيقة كنص من نصوص نزار قباني، دامعة ومتشائلة تحلق عكس النحس العربي (عندما يعلنون وفاة العرب تبقى فيروز حية تلد الأغاني والخيام والشكولاطة لأطفال العرب···)
- بين ذراعي تستلقي هذه الغيمة الرحبانية، تقسمني نصفين كحبة فستق، إن فيروز وموسيقى فيروز وأغنية فيروز هي استطراد رومانسي، و ملكي، ينحت في شاعرية شاعرية اللغة، وفي غير ذلك فحسب ينحت في مكان اللغة، في الواقعة الأنسنية، في الحكايا الحقيقية التي تأتلف في الساحات وفي البسطات، ولذلك تأتي الخصوصية الفيروزية بالغة التموقع في خارطة الفن العربي، ففيروز يجب أن تكون فوق الطرب والحفلة والقناة والجمهور والتلفزيون وحلقات الضيافة··
تتشكل الرواية العربية وهي تلمح الى العجز في استكمال التشكل (عجز تكون فيه فيروز غائبة) ·· تنكتب أبيات القصيد وهي تتهدج كالحة ومتعثرة وفي ذلك عجز تكون فيه فيروز غائبة·· تأتي اللوحة التشكيلية على استحياء العذارى، أو سريالية غامضة لا ترسم الأفق ولا تنظر للمستقبل وفي ذلك قصور معناه غياب النص الفيروزي نص قوامه الكلمات والميتافيزيقيا، والحضور المشع، (الحفلات الأخيرة التي أقامتها الأسطورة في لاس فيقاس، وأثينا ولندن ودبي والأسكندرية)···
الحفلات كتلك حدثت كولائم للفرح القدسي والقداسي المقدس، فأمام الأسطورة البيضاء بأقمارها السوداء لم يستطع الناس النوم أو الأكل أو الرقص·· فجسد هو فيروز الحكاية الطويلة، فالجسد كشعر سيدة، وليل العرب الساهي إلى آخر خيط من خيوط الفجر···
السفيرة وهي إذ تسكب الفرح في فنجان قهوتنا الصباحية، نديمة الضوء واللون والسيارات، حبيبة حبيبتنا، سنرجع يوما إلى حينا···
ونغرق في دافئات المنى···
سنرجع مهما يمر الزمان ···
وتنأى المسافات ما بيننا···
ما أحلى الرجوع··· وعلى أكتافنا سلال الزهر، والقصائد والمنى الرائعات··
دكان الفرح لا زال يبيعك أفراحه، أشرطة فيروز، سلاسل معقودة من زغب الحرير ورائحة التراب الأزلية ونكهة الضيعة·· ضيعة لبنان، وقهوة لبنان وحزن لبنان···
وهي تغني·· تسافر إلى آخر أحلامك ·· أحلامها تبسط لك المفارش والغطايا وتمنحك حبوب النسيان·· وابتهاجات اللقاء، لا يكفي التنويع ولا المقامات ولا التنغيمات···· ففيروز تهاجمك كمطر أندلسي··· يوهمك بالعودة ولا يعود، فيروز أميرة الخشبات، شامخة ككليوباطرة ترصع يومك بنشيج الليل همسا وحنيفا وامتلاء··· امتلاء لا تدري أين سيتوقف···فقط نزار قباني يدري وجورج طراد يدري وعبيدو باشا يدري···· وها هو نزار يوشح صباحها بكلماته اللذيذة، الطرية تقطع كرواسان
غلط تسميها سفيرة··· أو أميرة ···أو وزيرة ··
فكل التسميات صغيرة عليها····
كل اللغات أقصر من قامتها·····
إنها أهم من كل الوزارات، والمؤسسات، والبرلمانات، والنشيد الوطني والطوابع التذكارية والبطاقات السياحية، ووكالات الأنباء، وافتتاحيات الصحف، وأحزاب اليمين، وأحزاب اليسار وأحزاب الوسط··
إنها وحدها حزب··· إنها حزبنا···
حزب الذين يبحثون عن الحب، وعن العدل، وعن الشعر، وعن الله وعن أنفسهم····
أسطورة الأساطير··· وسفيرة السفيرات وابنة الفرح المخبئ في عيون العشاق الخارجين نحو أفراحهم الزاهية··· تضيق بها التسميات وتنحشر في الزاروب وهي غير ذلك·
هي التشكيل متسق ومموسق فيه روحانية عبد الوهاب وشجن أسمهان وعبق الرحابنة منصور وعاصي وزياد وأمثالهم علامات ومثالات // سكروا الشوارع·· في قهوة عالم فرق/ /أعطني الناي وغن/ ولا خواتيم، ولا أختام لهذه المضرجة بالحياة، ورقة بيضاء يكتبها القلب الأبيض في اليوم الأسود·
أُفـق
شكـــــــرا مهـــــــدي! و لكـــــــــن···
سعيد خطيبي
أخيرا هدأت عاصفة الانطباعات و ردود الأفعال الغاضبة إزاء آخر الأعمال السينمائية للمخرج و الكاتب الجزائري مهدي شارف، الذي جاء تحت عنوان/ خرطوشة غولواز/ أو / آخر صيف جزائري/· قرأت كأي مواطن عادي ما تداولته بعض الصحف و ما روجته من حديث حول المغالطات التاريخية والتزييف الذي حمله سيناريو الفيلم· أثارني غياب الحس بالمسؤولية في مقالات كثير من الصحفيين الذين لا يسعون سوى إلى اللعب على وتر الأحاسيس الوطنية و كسب تعاطف القارئ الجزائري· للأسف، كون العرض الشرفي للفيلم كان موجه فقط لبعض قاعات السينما بالعاصمة، فقد شرع الباب، على مصرعيه، لتأويلات أي كان بالمناطق الداخلية والتفاعل مع ما ورد عن بعض انطباعات المتفرجين· يفقد الحديث عن المغالطات التاريخية، كثيرا من مصداقيته، إذا أدركنا بان المخرج و الكاتب السيناريو جزائري، و ليس أجنبي· مهدي شارف ابن مدينة مغنية بتلمسان، هناك أين نشأ و تربى و قضى طفولته و مراهقته، و عايش حقبة نهاية الحرب التحريرية· كما أن الحديث عن العلاقة التي كانت تربط أبناء الأهالي بأبناء المعمرين سبق التطرق إليه من خلال شهادات كثير من الكتاب و المؤرخين المعروفين، على غرار مصطفى الاشرف و آسيا جبار· علاقة تميزها نظرة متناقضة لظروف الحرب التحريرية: بينما ينعت الأهالي المناضلين /مجاهدين/ ينعتهم الفرنسيون /إرهابيين/· هذا منطق الحرب· ثم أن قضية الحركى قضية متداولة قبلا· توجد بفرنسا اليوم إدارة تتكلف بشؤون هذه الفئة، تحميهم و تدافع على حقوقهم· إلى حد هذه النقطة، لا اعتقد بان مهدي شارف قد أضاف شيئا لتاريخ الحرب التحريرية كما هو مدون في كتابات كثير من المؤرخين· تبقى، إذا، نقطة التواجد اليهودي بالجزائر ما أثار تحفظ الكثيرين، خصوصا من خلال تصوير شخصية /راشيل/ التي رفضت، بعد الاستقلال، الرضوخ لتهديدات عناصر جبهة التحرير الوطني و مغادرة مسقط رأسها بمغنية· لا تمثل راشيل سوى عينة عن مجتمع كامل من يهود الجزائر الذين تعرضوا لكثير من الضغوطات السياسية، فيما فضل بعضهم التماس قانون كريميو الشهير، للحصول على حق المواطنة الفرنسية، على غرار المغني المعروف انريكو ماسياس·
حدثني والدي كثيرا عن اليهود الذين عاصرهم، زمن الحرب التحريرية، ببوسعادة· عن يومياتهم التي لا تختلف عن بقية اليهود بمناطق عدة من الوطن: /كانوا يمتلكون حيا خاصا بهم، كنيسة تدعى /بيت الصلاة/، يشتغلون خصوصا في مجال التجارة· يحتفلون بمناسبتين دينيتين مهمتين خلال السنة: عيد البخ (ينزلون خلاله، رجلا و نساء، للاغتسال بالواد) و عيد خيبر (في ذكرى سقوط خيبر)، يأكلون خلالهما خبزا مقدسا يدعى /عزيم/· تذكر بعض الروايات أن سبب استقرار الرسام العالمي ايتيان ديني ببوسعادة هو تعلقه بشابة يهودية، اوحت له بكثير من التصورات· شابة سبق و أن خلدها في لوحة أثناء اغتسالها بالود (يمكن العودة إلى أرشيف الفنان)· هذا ما سبب كثير من المشاكل للرسام الذي تعرض للاعتداء جسدي من بعض اقارب تلك اليهودية، قبل أن يأتي إلى إنقاذه سليمان بن براهيم الذي صار رفيقه الحميم طيلة خمس و عشرون سنة· بعد الاستقلال، تجنبا للاضطهاد، اضطر من تبقى من يهود الجزائر إلى تغير أسمائهم/· لا تزال متواجدة، اليوم، ببوسعادة، مقبرة يطلق عليها اسم /جبانة ليهود/، لا يزال يزورها أبناء الطائفة اليهودية مرارا· الحديث عن يهود بوسعادة مطابق كثير للحديث عن يهود المناطق الأخرى· باعتقادي أن غياب المرجعيات التاريخية، اليوم، صار سببا رئيسا في تزايد حدة الانتقادات إزاء ما تم اختلاقته و تسميته /طابوهات/· طابوهات خيالية، لا تمت بصلة للواقع· شكرا، مرة أخرى، لمهدي شارف على التطرق لموضوع غيب عن ساحات النقاش الفكري، شكرا على كشف الجرح الذي لم يضمد بعد، مع انه كان يجدر وضع تمهيد للفيلم، لتنوير العقول الداعية لرفض الاخر· ورفض الذات أيضا·
PH/ DjazairNews
المبدعة صافية كتو
في الذكرى التاسعة عشر لرحيلها
محمد بوزرواطة نزعة التمرد و ضريبة الكتابة
بحلول التاسع والعشرين جانفي من كل سنة تحلّ علينا ذكرى رحيل الشاعرة والصحفية / صافية كتــو/ أو / زهرة رابحي / الاسم الحقيقي لهذه المرأة المتمردة والصحفية المغامرة، وبين التمرد والمغامرة تمتد مساحة للبوح الشعري المنطلق الجموح لمعانقة الحرية والحياة والوجود·
تسعة عشرة سنة تنقضي على رحيل الشاعرة / صافية كتو / حياة كلها عطاء وتأمل وصمود، فمن سكون اللحظة الشعرية الهادئة وحس الطبيعة الدفاق الذي نلتمسه في قصائدها الشعرية الشبيهة بالصدى الذي تردده النايات الشجية إلى صرامة الكتابة الصحفية التي أقدمت عليها باقتدار وثقة لا تعرف الثبات والاستقرار·
كان همها البحث - دون هوادة - عن المعرفة واكتشاف الخبئ والمختفي من حياتنا التي لا تثبت شيئا·· فرغم صعوبة الظروف ومضطرباتها التي لم تكن في صالحها في يوم من الأيام إلا أنها استطاعت أن تبرز صوت / الأنثى / وتؤكد حضورها الفعال ضمن خارطة الشعر الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، لقد تبدت لنا هذه الشاعرة الخمرية الوجه ذات الأنف الناتئ والعينين السوداوين والشعر الفاحم كامرأة أسطورة قادمة من عمق كثبان مدينة /العين الصفراء/ خارجة لتوها من حكايات العجائز المسنات اللائي نسجن من ذكرياتهن قصصا أزلية لا تموت، فالغموض والالتباس يكاد يلف حياة هذه الشاعرة المغامرة في الكتابة والحياة، إذ لا يكاد يعثر الباحث على ما يشفي الغليل ويروي الظمأ لما يخص محطات حياتها ومسيرة انتقالها من مدينة لأخرى وعما إذا تركت مخطوطات أخرى عدا العملين اللذين نشرا لها خارج الجزائر: أحدهما مجموعتها الشعرية الوحيدة / القيتارة الصديقة/ والآخر مجموعتها القصصية المتفردة /الكوكب البنفسجي/، وقد صدرا تباعا عن دار انطوان نعمان عام 1979 بكندا·
وباستثناء هذين العملين لا يجد الباحث أدنى مرجع أو مؤلف ينوّه بحياة ومسيرة صافية كتو الشاعرة والصحفية، شأنها في ذلك شأن العديد من الأسماء النسوية الجزائرية التي تألقت عاليا في سماء الشعر والإبداع الجزائري ومرت في صمت مطبق دون أن يلتف حولها الإعلام أو يتذكرها الأصدقاء·
هي ـ إذاـ ضريبة الكتابة الإبداعية والكتابة النسوية على الخصوص التي جعلت كل من القاصة زليخة السعودي والشاعرة آنا غريكي·· وصولا إلى صافية كتو يدفعن أنفسهن قرابين لها، فالصوت النسوي الإبداعي يشكل عبوة معبأة بشظايا التمرد والغليان حالما يتاح له الانفجار لقول الشعر مناشدا الحرية والحياة على حد تعبير الراحل /كاتب ياسين/·
غير أن فرادة وتميـّز صافية كتو عن غيرها من المبدعات يكمن أساسا في هذه الوشيجة والعلاقة الملتبسة بالمكان الأول الذي شهد ولادتها، فقد اعترتها حالة خاصة أملتها شخصية الشاعر نفسها بما انطوت عليه من مشاعر مزاجية حادة تأرجحت بين الجفوة والحنين للمدينة، الحب والنفور والابتعاد عنها ثم وصولا إلى الركون لدائرة الصمت والانطفاء الأبدي، فمن ناحية تبدو المدينة متكأ حقيقيا عزّز موقعها الأدبي وغذى تجربتها الشعرية بأمصال جديدة بفعل ما أمدتها من إلهام وسحر طبيعي أخـّاذ نجد إنزياحاته في العديد من قصائدها الشعرية المرتوية من فيض الطبيعة وتغاريد الطيور الصداحة، ومن سطوع الشمس البهية في أيام الربيع المشرقة، لكن المدينة وعلى مستوى آخر قابلتها بالصّد والهجران، الشيء الذي عمق لديها الإحساس بالغربة ونمّى في أعماقها نزعة الضياع والوحدة وهو ما جعلها تغادر المدينة بحثا عن أفق جديدة أكثر استجابة لطموحاتها وأحلامها الجامحة، فلعلّ أن يكون ارتحالها من مدينة /العين الصفراء/ إلى العاصمة وإقرارها عدم العودة - إلا في زيارات عائلية خاصة - ما ساهم إلى حد ما في تأزيم حالتها النفسية وتعميق حالات الانطواء داخلها، وهو ما أدى بها إلى أن تختار موتها بطريقتها الخاصة·
وإلا كيف تفسّر حجم الفتور والخيبة الذي استقبلت به الشاعرة وهي تعود إلى مسقط رأسها محمولة على الأكتاف أواخر جانفي عام 1989 في يوم شتوي ممطر بموكب جنائزي قليل العدد، إذ اشتد اللغط والجدل، حينها وتعالت (صيحات) البعض ممن أعرض عن دفنها والصلاة عليها، متناسين في ذلك أصالة هذه الشاعرة التي تغنت بكثبان وشموس هذه المدينة ولياليها الدافئة ومتغافلين في الوقت نفسه عن مبدأ الحرية الذي دفعت نفسها فداءا لها، ولعل الشاعرة كانت تسخر من موقف هؤلاء قائلة : /··· وفـّروا دموعكم واحتفظوا بأدعيتكم وزيفكم فما عدت بحاجة إليها ···/ لكن تحدي وإصرار /الرفقاء/ آنذاك كان عظيما بما لا يدع مجالا للتشكيك في هوية هذه المرأة التي ارتبطت أكثر بقيمها وعاداتها وبتربة بلدها الزكي، فهاهي تؤثر العودة - ومن جديد - إلى مسقط الرأس ومنبت الطفولة ومنبع الصبا، بعد أن هجرتها سنوات بفعل الجفاء والعزلة، لقد كانت كما يقول الكاتب الجزائري حسن بوساحة /مثالا للبساطة والوداعة ولأشياء أخرى غامضة غموض أوبتها المزمنة·· وهي إذ توصد اليوم أبواب الصمت لتلتحق بكوكبها البنفسجي، فقد ظلت طوال حياتها إنسانة بكل جوارحها تحمل ماضيها وحاضرها ومستقبلها على كاهلها وتجوب أصقاع الأرض تريد أن تلجأ إلى مكان تدفن فيه عفونة الزمن الملوث/·
إن النهاية المأساوية التي آلت إليها صافية كتو بقدر ماهي قرار فردي مؤلم بقدر ماهي تعبير عن مآسينا جميعا، في وقت استنفدت فيه القيم وظائفها وتقلصت فيه جذوة الإبداع من حيث التوهج والفاعلية والعطاء ولئن كان موتها كاسرا للقلب مدميا للفؤاد فهو مؤشر دال على ما أحدث فيما بعد من وضع كارثي ألمّ بالمثقفين الجزائريين الذين سقطوا ضحايا للتزمت والتعصب والانغلاق، وكما يقول الروائي واسيني الأعرج: /إن سقوط شاعرة بحجم صافية كتو ليس من السهل أن يمر علينا هكذا كسحابة صيف عابرة إنه يشكل إرهاصا لما حدث فيما بعد، تماما كما الكائنات البرية التي تتحسس عمق الأرض ترقبا لحدوث زلزال وشيك/·
بعد مرور هذه السنوات ومع حلول ذكرى رحيلها ألا يحق لنا طرح التساؤل التالي: ما الذي بقي من صافية كتو كمنجز شعري وزخم حياتي ترك وراءه العديد من الأسئلة الحارقة والإستفهامات المؤلمة؟·
فهل قدر الشعراء والعظماء أن ينتهوا إلى ما انتهت إليه صافية كتو وقبلها·· مايكوفسكي، فرجينيا ولف، خليل حاوي، أرنست همنغواي، عبد الله بوخالفة ···وغيرهم·
لقد سقط هؤلاء لكن أصواتهم بقيت خالدة على الدوام·
قاص و منتج اذاعي
بشير خليفي
رحلـــة إلى الكوكــب البنفسجـي
صافية كتو أو بالأحرى زهرة رابحي المولودة بالعين الصفراء بتاريخ 15نوفمبر 1944 واحدة من عاشقات الإبحار في عوالم الكتابة وتيتم الإبداع اللائي جملن ملامح المشهد الأدبي الجزائري تحديدا المكتوب باللغة الفرنسية ··
وإن كانت نهايتها في العالم الذي نقيم فيه تراجيدية كحال الأمريكي همنغواي والأردني تيسير السبول إضافة إلى الجزائري عبد الله بوخالفة والعراقية حياة شرارة، فإنها أشرت وبالشكل الذي اختارته لنفسها ذات يوم ماطر في نهاية شهر جانفي 1989 إلى إنقهار لاينفع معه التغريد، كعصفورة بهية صدتها رتابة القفص من معانقة بهجة الحياة ورحابتها·
رحلت /الغزالة السمراء/ كما وصفت نفسها في ديوانها الشعري /صديقتي القيثارة/ والتحقت بعوالم كوكبها البنفسجي الذي تفننت في وضعه وترتيبه·
وكان تذكار / الكوكب البنفسجي/ متتالية قصصية صدرت عن دار نعمان الكندية سنة 1983 (في 140 صفحة حوت 14 إبداعا قصصيا وخواطر ثلاث تغنت بالحرية والإنعتاق) ·
وكملاحظة أولية فإنه باستثناء قصة /المقعد/ الطافحة بالتفاؤل والحبور حين يحلق الفرح الطفولي بظلاله الوارفة في قصة تدور أحداثها داخل قاعة سنيما، فإن بقية القصص الأخرى تعج إما بشكل ظاهر أو مبطن بتعاسة لافحة والتياع شديد·
بداية من / صراخ الحبر/ والتي يمكن أن نرى فيها سيرة ذاتية متنكرة لورود تماثل واضح بين (زينة) محركة القصة وكاتبتها صافية كتو، من خلال حياة امرأة تهوى الكتابة بداية من مسقط الرأس بالجنوب الغربي الجزائري إلى الانتقال للعمل في العاصمة ··
ليتوطد احتدام نفسي بالغ التعقيد بين ثنائيات ترهن الواقع، ثم تعطيه إمكانية التجاوز بعسر شديد، خصوصا حينما يتحرك في هذا الواقع مؤنث داخل مجتمع أبوي شامل / ما أتعس أن يكون الإنسان امرأة/ (ص 61 )، وإن كانت المرأة شاعرة تفيض رهافة، فإن العاطفة تزهو وتتأجج بمقابل واقع أسيف يدعو إلى الحسرة والبكاء·
هذه المعاناة في مذاقها المر تجد متنفسا لها بحضور خيال طلق يزحزح مهماز الواقع الجلف ويذكي لغة وجدانية حانية لا تفتأ أن تصطدم بالمأساة المتربصة في آخر/معظم القصص، فمن خلال قصة /المرأة الحالمة/ تتضح صورة (نورة) الفتاة الحالمة المنقهرة من واقع متجمد لمجتمع يصد طموحاتها ··تتعرف على رجل متزوج يسمى (نور)··يتبدلان العشق··يطلب يدها ·· تقبل ··وبالمقابل تسمع (زوجة نور ) الخبر فتدس له السم ·· يموت( نور) ··فتنقهر (نورة) بعد أن تستحيل روحها إلى مسحوق سرعان ما يتبدد حينما تلامسه أهداب الشمس ··لتعانق روح ( نورة ) صفاء السماء ·
كما يتجلى واقع الحساسية المتفردة من خلال اللغة الطافحة بالحنان الكبير، حينما تتماهى صافية مع دور الأم بحميمية وصدق وجداني سواء في قصة /دموع العين الصفراء/ حينما ودعت ( مريم ) ابنها الوحيد (عزيز) الذي فارقها لمحاربة الاحتلال الفرنسي /فيموت عزيز ويبقى الوطن/ كما تقول (مريم)، ويبقى معه ذاك المشهد الخالد حزنا وحرقة أثناء توديع (مريم) لوحيدها ، والذي تفاعلت معه القاصة بأبجديات توطن التأثر والحسرة·
وكذا في عرض مشهد مماثل من خلال قصة /استجواب الأمس/ حيث تبرز صافية مهاراتها كصحفية تعرض قصة (سعدية) الممرضة في عيادة طبية بتلمسان ··فتفارق (سعدية ) ابنها الوحيد (مراد) الذي تتركه مع والده المعاق استجابة لنداء الوطن ·
وزيادة على الإشتغالات المعرفية لصافية كتو كصحفية جابت كثيرا من أصقاع الدنيا، إضافة إلى كتابتها للشعر والقصة والمسرحية وكذا أدب الأطفال ، فإن التفرد الأساس يعود إلى اعتبارها رائدة لأدب الخيال العلمي في الجزائر على وجه الخصوص ·
ففي قصة /القمر يحترق/ يقود ( ياسين ) الطائرة (عايدة 15) التابعة لشركة طيران القمر لسنة 2222 والمجهزة بتقنيات عالية، على حين غرة يطلب من (ياسين) العودة إلى الأرض والاتجاه تحديدا إلى الجزيرة الاصطناعية، حينما تحط الطائرة يبدأ الركاب في استعمال مناظيرهم لرؤية المكان الذي كانوا سيقصدونه / ما رأوه كان مذهلا : القمر يحترق/·
وبالنسبة للقصة الركن /الكوكب البنفسجي/ فإن مشهدية الخيال والحلم تتضح في الرحلة التي يقوم بها أصدقاء (حليم ) إلى الفضاء على ظهر المركبة ( فايزة 07) التي توجه عنوة إلى كوكب جديد بنفسجي اللون يتضمن مدنا خضراء وسكانا لا يعرفون الهرم والسأم والحقد، يعيشون في هدوء واطمئنان كما يشغلون أجهزتهم الالكترونية ويحركونها باستعمال الكلام كحال السيارة التي بمجرد أن تدعى للحضور تستجيب ···
وبهذا فقد حاولت صافية كتو من خلال متتاليتها القصصية /الكوكب البنفسجي/ أن تؤثث عالما طوباويا منشودا أهم دعائمه الاستقلالية والحبور كحال طفلة صغيرة تدفعها براءتها إلى العناية والحنو في ترتيب الأشياء الصغيرة والجميلة·
وبذلك يبقى / الكوكب البنفسجي/ بلغته الوجدانية الطلقة وخياله الفريد شاهدا حصينا يضيء عقولنا، نرحل إليه كلما أردنا تغيير اللون والمكان···
صديقتــــــي القيثــــــارة
مختارات شعرية
ترجمة: بوداود عميّـر
سفـــــــــــر voyage

ياه! لكَم أعشق اجتيَاز
حُدودَ العـَالم
لأكتشفَ أخيرًا
مَهبطَ العصَافير

كمْ من لـُغات وأغَانٍ
تمتزجُ بتجَاويف المرَافئ
ثمة عُطور جَديدة
تمنحُ أريجًا واحدًا

كم من مرةٍ في الّلـيل
فتحتُ المغالقَ
لاستنشَاق نسيم
ذاك الأريجُ المعقـّدُ

وليدُ مغامرات
منَ الحيويّة والأشعَار
حنانُه المُختفي
يهدّئ الرّوْع

وها أنّني أتخيّل أيضًا
البلاد حيثُ يمرّ
وأراهن أنّها جميلة
في تنوُّعها

الثيابُ العتيقة
تكسي الأحياءَ·
والطقوسُ الغابرة
تستذكرُ ماضيهَا

هو قرنُ السّرعة
يصنعُ مدنـًا عصريّة
الطـّرقُ المُلتويّة
تحاذي البناءات الطويلة

والوجُوهُ البشريّةُ
بتنوّع أطيَافـهَا
يجيئُون ويذهبُون دونَ تريّث
مأخوذين بتدفـّق الأيّام

نساء الربيع les femmes du printemps

فراشَات خَفيفة
ترفرفُ في السّهل
وقد تمدّدت
على العُشب الصّامت

غطىّ الربيعُ فُستاني
بتويجَات الوُرود
وأنا ألتهمُ تفاحَة
كنت أتأمّلُ السّمَاء

فجأةً لاحظت
مئات النساء
يَحملُون أطفالاً
بخدُود غلّفها الفجر

النّسَاء كنّ جَميلات
يشبهنَ النّجُوم
يَمشين بخطىً حيّة
في وَادي الغزلان

انطلقنَ في الغنَاء
وقد بلغنَ الينبوع
يحاولن إحَاطته
ليشكّلن تويجا

تناولتُ فرشاتي
ولوحتي النّائمَة
لأرسُم دونَ انتظـَار
تلك الزهرَة الشّاذة

أهديتُ هذه اللّوحة
الى أرَملة الزّمن
كانت تتأملُ الوردَة
وقد تعرّفت على بناتها

عيونُها الرّمادية تتبخّر
فرائصُها ترتعدُ
سعادتُها كانتْ طافحة
وليتجمّد الضّجيج·

يستوطنُني الإحسَاسُ
يحضنُ الشّمسَ
أرقصُ بجنونٍ
حتَى نهَاية يومٍ

في آخر الغسَق
عثرتُ على أمّي
كانت تطرّزُ علمًا
تحتَ نخلَة تمْـر

نظرة الصحراء le regard du désert

أعشقُ الصّحراءَ
لشساعتها
التي تحطّمُ الأجسادَ
لاستنطاق الأرواح

أعشقُ الصّحرَاء
لريحها السّريعة
لا إنسانـًا يقيّدها
سوَى الحريّة

أعشقُ الصّحرَاء
من أجل رمْلها الذهبيّ
الذي لا ينتظرُ شيئًا من الإنسَان
تلك هيَ الطّهارة

أعشقُ الصّحراءَ
لسمائها العجيبة
التي لمْ يلمسُها الإنسَان
إنها الخلُود

عامرة هي الصّحرَاء
لا، ليسَت مقفرةً
كثيرًا من الذرى الغريبة
تنشّط نظرَها
* من مجموعتها الشعرية / صديقتي القيثارة / الصادرة عن /دار نعمان للنشر/ بكندا عام .1979
عبد القادر ضيف الله عاشقـــــــة بـــــــلاد البــــارود
مهداة لروح شهيدة الكتابة صافية كتو
صافية يا نجمة البرزخ في رؤى
اليمام الأزرق
في ساعات انكسار بلدي
في الخطوة الهاربة من الوادي
في الرحيل ··· الرحيل
ينتابني السؤال
فلا أقوى على الاشتهاء
ولا على البوح
كتمت رؤياك عنا
كنت من أصابعك تعجنين خبزاً
اليتامى والأرامل
والشعراء الراحلين
بابلو نقطة الانتماء على نهر الحيارى
كنت على جبهة الكف ترابطين حين أبصرتك
عجائز عين صافية
الكلّ تلمس بدايات المدينة
لأجل عينيك بايعتك المدينة نبيـّة
بلا خطى ··· بلا معجزة ···
غير الدرعان وخطوط الكف وحبات الرمل الفسفوري
وصوت السيتار الحزين في مدارات ما خطت
أصابع الرسل التي لا زالت تنكسر على مذبح الرباب
أصابع الحكماء كالريش في المهب
كلهم مروا مولعين هاربين من لوعة المدينة
وأنا خلفهم تخنقني رغبة الطرب والرحيل
كان وعدك ··· بالبقاء ··· بالمجيء وبالمشي
على حبل الكوكب البنفسجي
رأيتهم يشنقون تباعا كالدمى
لا أحد غيري يلعب بالدمى
لا أحد يكتب تاريخ النجوم
لا أحد يتساءل عن سرّ موت الفراش
لا أحد ··
يبكي وشرق الابتسامة بين عينيك
لا أحد صافية ···· لا أحد
رأوك تجليت في عيني المدينة
لا سيّد للمدينة
لا سيّد لي ···
لا سيّد لشعراء غيرك ···
كي تمطر غيمة البحر على وادي إيزابيل
لا ······
الكل يسأل عن آخر همس
عن آخر نكتة حولتنا ضفادع لا تحسن غير النقيق
على عروس المستنقع
صافية ···· هذا صوتك كرصاص
لا أحد يهديك البندقية
لا أحد ينصب صوته كي يغويك ··· لا أحد
غير بلدي ··· وعين صافية··· وأنت
لا رجل يكتبه الشعر
ولا امرأة غيرك صافية
تمنح لشعر جناحيه في المدينة
في بلاد البرود ···· لا فراش ولا قيتار ···
غير الذي جعلك ترحلين
ونحن بعدك لا نقوى على الرحيل ···
قاص و شاعر صدر له مؤخرا مجموعة قصصية بعنوان : كوابيس الليلة البيضاء·
هوامــــــــــــــــــــــش :
صافية : الشاعرة صافية كتو ·
بلاد البارود : اسم مدينة العين الصفراء الذي أطلقه عليها المستعمر أيام مقاومة الشيخ بوعمامة·
بابلو : نيرودا شاعر الشيلي الكبير، كتبت عنه صافية كتو في مجموعتها الشعرية (صديقتي القيثارة)
السيتار: آلة موسيقية ، آلة القانون ·
إيزابيل: إيزابيل ابرهاردت الكاتب والصحفية الروسية التي ماتت في وادي العين الصفراء .1904
الكوكب البنفسجي: مجموعة قصصية للشاعرة صافية كتو·
عين صافية: اسم مدينة العين الصفراء قديما·
كمال زايدي اعلامي صفية····ينبوع العزاء
تعود الذكرى··· وتعود معها الفجيعة موشاة بندوبها·····يعود معها العزاء من عمق القلب···
تعود صفية موشاة بعبق رائحة الرمل الذي يحرس مدينة العين الصفراء من فيضان الموت ···خطف بابنته في شتاء عاصمي كسول··· قبله فيضان الوحل···دكّ جسد الطاهرة ايزابيل ابرهارت ···بعده فيضان العمر······ اختطف في فجاة اب الانسان الاب كوميناردي····
ماذا تحكي المقبرة···مقبرة سيدي بوجمعة··· ؟؟
للحزن لذة ··· وللبكاء وميض··· ولصفية كل الطعم···هذه الزنبقة التي غيبتها ارض اليباب ··· ولفظها الجسر الى هواء الغياب ··· ككثير من اسمائنا غابت···سبتي ··· علولة ··· مجوبي···بوخالفة ··· جاووت ··· لم يتركوا الا صهيلا خافتا وبصمات لحوافر خيول محاها النكران····
ماذا احكي ··· عن صفية··· سيدة المقام والحكاية···؟؟؟
للذكرى نزيف ··· وللصمت فناء ··· ولصفية كل الكلام···هذاالحرف الذي قتلته الكلمات، جرح من جسد جزائري جريح ·· احتفت بها الجسور ····· والتهمتها العاصمة يافعة وخصبة ··· عندما تجوع البيضاء تأكل
أبناءها كالقطط ··· القائمة على الباقي ··· على الاحرف النازفة···
ماذا احكي ···عن صفية····سيدة
الرمل···؟؟؟
للغياب حسرة ··· وللموت وميض ··· ولصفية كل الحياة ··· اكتب عنها··· عن حبات الرمل تلامس وجنتيها برفق في غيابها الابدي ··· عن وجهها القمحي المشدود الى شرفة الخراب ··· عن عينيها المفتوحتين على خرائط العتمة ··· عن شعرها المتهدل عبر منحدرات الصمت ···
ماذا احكي···عن صفية···غزالة الريح·· ؟؟؟
على الجسر البارد ··· سقطت سنونة الجنوب ··· مع المطر جاءت ، وحين غاب ، كانت هي الاخرى تعقد ضفائرها ··· سقطت العصفورة ونامت ··· عندما ذابت في الحلم ، كانت اقدام البرابرة تدوس على قامتها الرهيبة ··· وتشرب على صوتها نخب العزاء····
للادب قصة ··· وللقصة مراسيم ···· ولصفية كل اللغة ··· اسمع الان صوتها يأتيني من جوف المدى البعيد الذي يفصلنا ···· أسترق الأذن الى تبتلها الصوفي ··· الى صلاتها في محفل الاولياء الصالحين ··· سيدي الشيخ ····· سيدي احمد المجدوب ··· لالا صفية ··· كانت لالا صفية تراقب ببطأ
جنينها الحي سيدي يحي ····للاسماء اسرار ··· و للاولياء اسرار ··· ولصفية كل العمر·····
اليك ···· هذا العزاء المتاخر ··· عذرا ان تخلفت عليه····
المترجم الجزائري مارسيل بوا لـ ''الأثر''
الطاهر وطار ظلم الطاهر جاوت حتى بعد وفاته
ارتبط اسم مارسيل بوا خصوصا بترجماته للأعمال الروائية للراحل عبد الحميد بن هدوفة، إلى الفرنسية· يعترف محمد ديب بأن مارسيل بوا كان صاحب الفضل في أول مبادرة تقريب بين ما يكتب بالعربية و ما يكتب بالفرنسية في الجزائر المستقلة· كما سبق أن نوه بمجهوداته الأدبية كثير من الكتاب المعروفين الآخرين، على غرار رشيد ميموني و الطاهر جاوت· زرناه منذ بضعة أيام في بيته-مغارته الأدبية-وكان لنا معه هذا الحوار·
أجرى الحوار: سعيد خطيبي
معروف بأنك من مواليد منطقة /لا سافوا/، شرق فرنسا، عام .1925 حاصل على شهادة ليسانس في الآداب الكلاسيكية، عن جامعة ستراسبورغ، عام .1954 حدثنا عن بداية توجهك لتعلم اللغة العربية؟
بدأت تعلم اللغة العربية بتونس، بالمعهد العالي للدراسات العربية و الإسلامية - قبل أن يتم تحويله إلى روما الايطالية- منتصف الخمسينيات من القرن الماضي·، استجابة لبعض ضروريات دراسة علم اللاهوت· تعلمت بداية اللهجة العربية التونسية· بعدها، بداية الستينيات، انتقلت إلى بيروت بلبنان، أين اشتغلت مدرسا للغة الفرنسية· في تلك الفترة، تابعت تعلم العربية برفقة تلاميذي (يضحك!)· وصلت إلى الجزائر، عام ,1961 قصد تسيير شؤون مجلة /المغرب- الشرق الأوسط/· اذكر بأنه تم شل المسار المدرسي سنة ,1962 أجلت دورة البكالوريا، إلى شهر سبتمبر· مما سمح لي بالتحضير للامتحانات جيدا خلال فصل الصيف· نجحت في الحصول على شهادة البكالوريا تلك السنة و انخرطت في معهد اللغة العربية بجامعة الجزائر أين نلت شهادة الليسانس عام .1968
ربما أهم دافع إذا إلى تعلم اللغة العربية هو ضروريات دراسة علم اللاهوت؟
ليس تماما· أنا لم أكن مضطرا يوما للقيام بفعل ما· إنما هو اختيار، و أنا اخترت التوجه لتعلم اللغة العربية·
ماذا تذكر عن سنوات بداية إقامتك بالجزائر؟
(يصمت قليلا) اذكر أشياء كثيرة· تغير البلد كثيرا· كان زمن جميل، أما اليوم فلم تبقى سوى الذكريات· اذكر نهاية عشرية الستينيات حين كنت اشغل منصب أستاذ بثانوية بن عكنون بخلافة، بعض الوقت، أستاذات يخرجن في إجازات أمومة (يضحك!)· ثانوية المقراني أين التقيت، لأول مرة، بالصديق عبد الله المازوني، صاحب الكتاب المهم /الثقافة و التعليم بالجزائر وبمنطقة المغرب العربي/، الصادر عن منشورات ماسبيرو، عام .1969 كان رجلا رائعا· احد مزدوجي اللغة الجيدين القلائل الذين عرفتهم الجزائر· يجيد العربية و الفرنسية بإتقان· لا يجب أن نتناسى اليوم مجهودات هذا الأخير في تطوير الفعل الثقافي و الفكر الحداثي بالجزائر· عبد الله المازوني هو من عرفني على عبد الحميد بن هدوفة· هو من نصحني أولا بمطالعة /ريح الجنوب/ التي كانت ثاني رواية أطالعها باللغة العربية، بعد رواية /سارق الأوتوبيس/ لاحسان عبد القدوس·
إذا قرأت /ريح الجنوب/ ثم ترجمتها؟
صحيح· لم تكن، في البداية، تراودني فكرة ترجمتها· لكن، كما قلت، ظل عبد الله المازوني سندي و دافعي لولوج عالم الترجمة·
هل أبلغت بن هدوفة، قبلا، بنيتك في ترجمة روايته؟
كلا! لم يعلم بالموضوع سوى بعد الانتهاء من الترجمة·
كيف تم استقبال تلك الترجمة في الأوساط الأدبية، خصوصا كونها أول ما يترجم عن الأدب الجزائري المكتوب باللغة العربية؟
اذكر بأنها لقيت استحسانا واسعا· خصوصا من طرف الكتاب الجزائريين الفرانكفونيين· اطلع عليها محمد ديب و أبدى إعجابه بالتجربة الروائية لبن هدوفة· تعددت الطبعات المتوالية· اذكر بأنه تم نشر خمس طبعات مختلفة في ظرف قصير· كما إن الترجمة إلى الفرنسية ساهمت في انتشار اكبر للنص الأصلي باللغة العربية·
كيف ذلك؟
تجسد هذا خصوصا بعد تبني الرواية في عمل سينمائي، للمخرج محمد سليم رياض الذي اشتغل على سيناريو مقتبس من ترجمة الرواية إلى الفرنسية·
توافق فرضية كون عبد الحميد بن هدوفة أول روائي جزائري باللغة العربية؟
هذا صحيح· ربما ظهرت قبله بعض المحاولات، على غرار ما كتبه أحمد رضا حوحو في /غادة أم القرى/ التي لا اعتقد بأنها تستجيب حقا لمعايير الرواية المتكاملة· بدأ عبد الحميد بن هدوفة تجربة كتابة كلاسيكية، لكنها تستجيب لمقاييس الرواية·
كيف كانت علاقتك الشخصية بعبد الحميد بن هدوفة؟
كان عبد الحميد بن هدوفة رجلا ذو قيم· كان أهم و أفضل رجل عرفته في مسار حياتي· كان شخصا منفتحا و جد متمسك بهويته و مكوناته الثقافية، في آن واحد· كنا نتبادل الزيارات ببيته بقرية منصورة، ببرج بو عريريج، و بيتي بلاسافوا، شرق فرنسا·
أنت اليوم تناهز الثالثة و الثمانين· صرت مرجعا في مجال ترجمة الأدب الجزائري، من العربية إلى الفرنسية· لم تظهر في الأجيال المتعاقبة، منذ الاستقلال، أسماء جادة كثيرة في هذا المجال من الترجمة؟
(يصمت قليلا) يعود ربما جوهر الإشكالية إلى غياب منظومة تربوية واعية و جدية· أعطيك مثالا، لما كنت شابا، كنت أطالع كثيرا الروايات· قبل اجتياز امتحان البكالوريا، كنت قد طالعت ما لا يقل عن مائتي رواية· كان راسي يغلي بكثير من العناوين و الكتب و الأفكار· كان فعل المطالعة في صلب اهتمامات أبناء جيلي· كان من السهل إن يتجه احدنا إلى مواصلة دراسات أكاديميية في الأدب و الترجمة، فينجح· أما اليوم، صرنا نشهد حالة تسيب كبيرة، في الثانويات كما في الجامعات· لو نبدأ من الأستاذ فستصاب بخيبة أمل· الغالبية لا يطالع كتابا واحدا كاملا طيلة العام· فما بالك بالتلميذ! للأسف، صار معهد الترجمة و اللغات لا يدخله سوى الفاشلون في دراساتهم، المرفوضين في شعب أخرى·
تبدو قلقا عن راهن الترجمة الأدبية في الجزائر؟
ما يؤسفني هو كون الجزائر تتمتع بخاصية الازدواجية اللغوية الني تفتقدها كثير من الدول العربية الأخرى· لكن للأسف، لم تستطيع الجزائر بعد استغلال هذه الخاصية· برأيي، لا تزال توجد كثير من الكنوز الأدبية التي تنتظر النور و تهم القارئ الغربي· لا يزال فعل الترجمة بطيئا عندنا·
للأسف، لم تساهم هذه الازدواجية اللغوية سوى في تأجيج أزمة ما يين المثقفين الجزائريين؟
كلا! إنما هي أزمة مفتعلة· أحيلك إلى عبارة قالها عبد الحميد بن هدوفة، في ذكرى إحياء أربعينية الراحل رشيد ميموني، بالمركز الثقافي الجزائري بباريس: /رغم اعتباري الدائم أن الجزائر في حاجة إلى كلا الأدبين، و دفاعي المتواصل عن ذلك في كل المحافل، ألا أنني أقول بيني و بين نفسي: إن اللغة في الأدب وطن الكاتب و لو أنها في غير الأدب أداة تواصل (···) لا· الأدب لا تميزه اللغة· ولكن يتميز بالقضايا التي يعالجها· يتميز بقدرته، أو عدمها، عن التعبير عن إنسانية الإنسان (···) ما يفرق بين أدب و أدب ليس اللغة، و لكن القيم الإنسانية التي يحملها· فالأدب الظلامي سواء كتب /بلغة الجنة/ أو كتب /بلغة الشيطان/ فهو أدب لا إنساني·
سبق و أن ترجمت بعض الأعمال الروائية للطاهر وطار: الزلزال، الشهداء يعودون هذا الأسبوع و عرس بغل· لكن، اليوم، ساءت علاقتك بهذا الأخير، بعد تصريحاته الجارحة التي عقبت اغتيال الكاتب الطاهر جاوت؟
صحيح· الطاهر وطار رجل و روائي احترمه· لكنه تجاوز حدوده كثيرا و صرح بكلام، لا يليق بمقامه، إزاء شخص الراحل الطاهر جاوت· ما معنى أن يصرح: /اغتيال الطاهر جاوت خسارة لفرنسا و ليست للجزائر/· ما معنى هذا الكلام؟ كيف يصدر عن روائي محترم مثل الطاهر وطار· ما ذنب الطاهر جاوت أن لا يكتب سوى بالفرنسية، اللغة الوحيدة التي يتقنها· الطاهر وطار ظلم الطاهر جاوت حتى بعد وفاته· صحيح أنني ترجمت أعماله الروائية الأولى، لكن، اليوم، لو أن الطاهر وطار ينشر رواية /عالمية/ فلن افكر في ترجمتها·
مؤخرا، ابدى الطاهر وطار، في حوار مع /الجزائر نيوز/، تحفظا إزاء هذه التصريحات؟
مهما قال و مهما سيقول يظل، بنظري، الطاهر جاوت احد أهم الكتاب بالجزائر·
ترجمت أيضا روايتي /فتاوى زمن الموت/ و /بوح الرجل القادم من الظلام/ لإبراهيم سعدي· ما هو انطباعك حول هاتين الروايتين؟
جاءت هاتين الروايتين ضمن مرحلة مهمة من تاريخ الجزائر· تحملان كثيرا من الأبعاد الإنسانية و قدرة على التحليل و البحث عن إدراك أهم العناصر التاريخية القادرة على صنع التغيير·
آخر ترجماتك هو رواية /كتاب الأمير/ لواسيني الأعرج·
نعم· ترجمت هذه الرواية الضخمة بشغف كبير· أهم ما أثارني في هذه الرواية هو التفتح الفكري الكبير للأمير عبد القادر الذي استطاع خلق جسر تواصل مع أسقف الجزائر آنذاك أنطوان ادولف دوبيش· بدأت العلاقة ما بين الرجلين في حادثة تبادل أسرى، ثم تواصلت عبر تبادل رسائل، قبل أن تتجسد في لقاءات مباشرة بمنفى الأمير عبد القادر بفرنسا· يعد الأمير عبد القادر احد أهم رموز حوار الديانات بالوطن العربي· يؤسفني أن مشروع تبني هذا العمل سينمائيا لم ير بعد النور·
كم استغرقت ترجمة تلك الرواية الضخمة إلى الفرنسية؟
لا اذكر المدة تحديدا· أنا لا اشتغل بشكل منظم بصرامة· لكنني أقول بمعدل ثلاث ساعات لكل صفحة·
حول ماذا تشتغل الآن؟
أنا حاليا بصدد ترجمة رواية جديدة لواسيني الأعرج، تحمل عنوان /سراب الشرق/، ستصدر شهر جوان المقبل، في أربع لغات مختلفة، بعد اختيارها في مسابقة أدبية من تنظيم مشترك لمركز الآداب و الفنون لدولة قطر و اليونسكو، حيث تم انتقاء روايات تتطرق لراهن و تاريخ منطقة الشرق الوسط، لكتاب كثيرين، نذكر منهم واسيني الاعرج و أمين معلوف· تنطلق أحداث هذه الرواية من تاريخ سقوط برجي التجارة العالميين، بنيويورك، في 11 سبتمبر ,2001 لتغوص في الجذور التاريخية للصراع القائم حاليا بمنطقة الشرق الأوسط·
قرأت و ترجمت كثيرا من الروايات· ألم تفكر في كتابة رواية؟
لم تراودني هذه الفكرة بعد (يضحك!)
سايرت مختلف التحولات السياسية والثقافية بالجزائر، منذ .1962 ألم تفكر في كتابة مذكرات؟
لم أفكر بعد في هذا الموضوع· ما يؤسفني حقا هو عدم تدوين ملاحظات حول علاقتي بعبد الحميد بن هدوفة، خصوصا خلال السنتين الأخيرتين من حياته· مع بداية اتساع العنف الاسلاموي بالجزائر·
بعيدا عن الأدب، كيف تعيش حياتك اليومية؟
أنا هنا بالجزائر، ارأس الكنيسة الكاثوليكية بالقبة· تربطني كثير من العلاقات مع المثقفين الجزائريين و بعض الزملاء القدامى في قطاع التعليم·
PH/ DjazairNews
أ- مونيس بخضرة جامعة تلمسان فلاسفــــــــة الخــــــــوف
أسئلة كثيرة تتداعى للذهن حول مصير الفلسفة بعد وفاة أرسطو طاليس أو ما يسمى بالفلسفة الهلينيستية، وأسباب إنحدارها السريع وانحصارها في مسائل الهلع والخوف الذي بدأ يتسرب إلى شوارع أثينا من كل صوب، فلسفة تنكس واقع الإغريقيين المليئ بالأهازيج والنشوات، نشوات كثير منها ما نتجت عن ما وصلت إليه المعرفة، خاصة منها المعارف العقلية التي شكلت قشرة فوقية على العقل الإغريقي، فكان مشدودا إلى السماء أكثر من إنشداده إلى الأرض وهو إنشداد الحضور- أنا الإغريقي- أنا أفلاطون العارفة التي لم تتجاهل معارفها الكاملة جعلت منه رجلا فاضلا و مواطنا صالحا يثير إعجاب الناس، أفلاطون كان يعتقد أنه رسول بعث من عالم الكليات ليذكّر أبناء جلدته عن عالمهم الأصلي الخالد الذين نسوه يوما ما بفعل النسيان، هم يعشون عذاب الفساد وألام سراب العالم، فالعالم لا يمكن معرفته لأنه مجرد صور وخيال، فمعرفته مستحيلة وكل ما نصل إليه فيه هو الظن فقط، إننا نعيش صور الحقيقة فقط لا الحقيقة ذاتها و عالمنا هو أحد صورها الزائفة، أفلاطون هو الوحيد نزلت نفسه إلى أثينا دون أن تتجاهل وظيفتها الفلسفية الشيئ الذي جعله يحتقر يوميات أثينا الغارقة في الجهل الذي جعلها رذيلة، و أما تلميذه أرسطو كانت عيناه مشدودتين إلى واقعه، و لا أحد ينكر أن نعمة أثينا ظهرت في شخص أرسطو رغم أنه لم يكن أثينيا، أحب أفلاطون و أكاديميته و أحب الحقيقة، فهو القائل/أحب أفلاطون وأحب الحقيقة ولكني أفضل الحقيقة على أفلاطون/، هذا ما جعل أرسطو ينسحب من أكاديمية أفلاطون عندما تولى رئاستها رجل قليل المواهب يدعى سيرسيبوس ابن أخ أفلاطون، علّم الإسكندر ثم عاد إلى أثينا سنة 355قم ليأسس منتزه قرب معبد أبولو ليكيوس الذي به سميت مدرسته ليكيوم أي ليسيوم - ليسي-·
إمتلك هذا الرجل معارف موسوعية جعلته يبدو وكأنه ليس من أبناء البشر، فقانون الغائية على سبيل المثال توصل إليه من بحوثه في علم الأحياء مستنتجا أن لكل كائن غاية طبيعية يسعى إليها في وجوده، الأمر الذي جعل أفكاره العلمية و الفلسفية تتحول عبر الأجيال اللاحقة إلى مسلمات راسخة الصحة، يدافع عنها معتنقوها مثلما يدافعون عن معتقداتهم الدينية حتى درجة الموت، خاصة بعد إكتشافه علم المنطق الذي يعصم العقل من الوقوع في الزلل، ظن فيه أرسطو أنه آلة العلوم كلها و محركها، الذي زاد نظام معارفه صلابة واتساقا، بالإضافة إلى علم الخطابة والبلاغة و الأخلاق والسياسة والطبيعة و ما وراء الطبيعة (ما بعد الطبيعة)·
في نظرنا أن ما وصل إليه أفلاطون و أرسطو في المعرفة عموما وفي الفلسفة على الخصوص من تقدم لا مثيل له في تاريخ المعرفة حينما جعل من الفلسفة علما شموليا كونيا، بعد أن ربطا بين فروع المعرفة كلها برابط منطقي يستحيل تمزيقه و تفكيكه، هو السبب الذي جعل الفلسفة تنتقل من ما هو معاش يومي إلى ما هو مفارق للواقع في شكل نسق محكم الأجزاء اختزلت الماضي والمستقبل في الحاضر، نسق غلق أبواب الفكر والتأمل، بمعنى أن كل ما يمكن التفكير فيه أصبح مفكرا فيه ولا حاجة لإجهاد العقل في ذلك·
إن نسقية أفلاطون وأرسطو هي التي كانت وراء إنحطاط الفلسفة بعدهما لأنهما لم يتركا حقولا للعقل لكي يعمل فيها و ينتج، ليرميا بثقلهما على مستقبل العقل والفلسفة ، ثقل الانتكاسة الكبرى جعلت منهما يهيمنا على الفلسفة إلى غاية ظهور الثورة العلمية الكبرى التي عرفت كيف تحدث شقوق في فلسفتهما بعدما كشفت عن أخطائهما خاصة ما تعلق بالعلوم التجريبية كمركزية الأرض وغيرها·
توقفت مسيرة أرسطو بعد وفاة الإكسندر، كان هذا الأخير قد طلب من المدن اليونانية أن تمنحه شعائر الآلهة بدوافع سياسية محضة، هذا الطلب ولد إستياء عميق في نفوس اليونانيين وخصوصا وأنه طلب منهم أيضا إعادة المنفيين إلى بلادهم من أجل خلق الإستقرار في اليونان، رغم هذا الإعتراض إلا أنها أقرت بألوهيته، في هذه الفترة شعر أرسطو بتهديد يتربصه، وهو تقديمه للمحاكمة بتهمة الكفر وعدم التقوى فهرب إلى أنثاكليس حيث توفي سنة 322 قم، فكان أرسطو بحق قد مثل آخر حلقات الفلسفة التي تعبر عن الحضور و القوة و العزة، فلسفة تمكنت من ربط أوصال الوجود سواء المعطى الحسي المؤول عقليا وأشكلت أشياء الوجود وفق طبقات المنطق حتى صار الوجود ممنطقا، إذن الوجود لم يكن يوما ما فوضى و عماء و إنما كان منذ الأزل منظما ومرتبا ولا زال كذلك، لا تسبق أجزاؤه بعضها البعض، ولو كان ذلك لا حدث الفساد وزال الوجود بأزله، إنها عبقرية لامعة في تاريخ المعرفة لم يترك فراغا من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، لم يكن في ذلك أفلاطونيا كما لم يكن سوفسطائيا وإنما كان أرسطو·
ولكن ما الذي حدث للفلسفة بعد أرسطو؟، وما الذي أصاب الفلسفة وفلاسفتها؟
انتكاسة الفلسفة
شهدت الفلسفة بعد رحيل أرسطو إنتكاسات متتالية خرجت على إثرها عن مضمونها الحقيقي التي وجدت من أجله، فبعدما كانت تمثل الحضور تبحث في الوجود واللاوجود وفي العقل و وظائفه التي شكلت مواضيعها الأساسية، تراجعت وانحسرت خلال الفترة الهيلينستية منكمشة على مواضيع النفس، فلم تعد تتجاوز حدود النفس وأعماقها إلى ما هو عقلي و ما هو كوني، مكتفية بطرح تساؤلات تعكس الخوف والنفور بكل أشكالهما، فلم تعد تهوى المغامرة المعرفية كما كانت في عهد سقراط و أفلاطون و أرسطو، والحقيقة أن هذا الانحدار الفلسفي كان متوقعا نظرا للتطور البالغ الذي وصلت إليه الفلسفة فيما سبق كما ذكرنا في عامل إنحدارها الأول، أما العامل الثاني في نظرنا يعود إلى بحثها في اليوتوبيا التي ظهرت في أعمال أفلاطون وأرسطو المتأخرة والتي تمثل كتابات الشيخوخة، واليوتوبا بالنسبة لهما كانت الخيار الوحيد للإستمرار فيه فلسفيا وهذا راجع لإستنفاذهما كل المواضيع التي كانت في إمكان العقل والتي لم تخرج عن واقعهم ، هذا الإستنفاذ قادت فلسفتهما إلى خلق مواضيع جديدة أقرب إلى الخيال من الواقع ليبررا بها حضورهما الفلسفي في مجتمعاتهم إيمانا منهم بسرميدية الفلسفة وإطلاقيتها، هذه المواضيع اليوتوبية التي ظهرت في الجمهورية و في السياسة جعلت من الفلسفة تبحث في اللاشيء وفي لا ممكن على إثرها أصيبت الفلسفة بالخواء والجفاف خيبت أمالنا فيها ما كان عليهما أن ينهيا فلسفتهما بهذه النهاية المأساوية الفظيعة، والأكيد أن الفلسفة حينما تصير يوتوبية يصيبها الشلل الذي يفقدها حيويتها وجوهريتها ، فاليوتوبيا التي ختم بها أفلاطون وأرسطو فلسفتهما هي التي كانت أيضا وراء إنحطاط الفلسفة بعدهما ليتركانها مشلولة وعقيمة، لأن العقل الفلسفي الذي هندس الوجود مستفسرا في أصوله و مراتبه جعلته اليوتوبيا الأفلاطونية يبحث في اللامعقول وينسى ذاته ووظيفته، أفقدته بصيرته و مناهجه التي توصل إليها خلال قرون من التأمل والبحث، هذا الخروج اليوتوبي بث في فلاسفة الهيلينستية العجز و لم يعد الوثوق في العقل متاحا، وهذا عندما إنكشفت لهم حدود العقل في اليوتوبيا، فالعقل لم يعد في اللغوس وغير قادر على الإستقراء والإستنتاج، فكان محتما عليهم أن يعيدوا قراءة الفلسفة من جديد على أن الحقيقة لم تعلوا يوما على الإنسان، لم يعد لها الخيار سوى التعبير عن ما يجول في أعماقه، فلسفة مملكتها الجديدة هي النفس بجميع روافدها لا العالم ، عليك أن تستخرج الفلسفة من أعماقك، تلذذ لتجدها أو تهذب لتجدها أو تنسك لتجدها، و المهم اطمئن أنت والحقيقة شيء واحد·
هذا كان بمثابة إنحراف عرفته الفلسفة وانتكاسة حقيقية للمعجزة الإغريقية و للعصر الذهبي الأثيني ( الديمقراطية، سقراط، أفلاطون، أرسطو)، فالخوف بدأ يظهر في أفكار فلاسفة الهلينيستية إنه المصير المشئوم الذي دفع بديوجين من سينوب على تقليد سقراط في حياته، سقراط مقدس السيرة، على إثرها ظهر خشين المشاعر وغليظ القلب منغلقا على ذاته خائفا وزاهدا، أينما حل به الظلام نام، في الشوارع والوديان وفي المقابر والمعابد، حتى قيل عنه أنه نام في جرة كبير مقلوبة تستعمل لتخزين الحبوب، فقد زاره الإسكندر المقدوني في كورنث سنة 235ق م و سأله: هل أستطيع أن أقدم لك خدمة؟، فأجابه ديوجين وهو مستلقي على الأرض /بإمكانك و من معك أن تمشوا من أمامي ولا تحجبوا الشمس عني/، فقال الإسكندر لمن كان معه معلقا:/ لو لم أكن الإسكندر لأخترت أن أكون ديوجين/· ديوجين إختار الخمول في الحياة لم يكن يفضل شيئ ولا يحاور بل إكتفي بالتأمل في سلوكاته وفي سلوكات الحيوانات، فكانت طريقته في الحياة التي عرفت بالطريقة الكلبية متأثرا بمعيشة الكلاب، فأصبح كلبيا بردائه المصنوع من الصوف وبلحيته الكثة، في حين كان أرسطو يعتني بمظهره وبأناقته التي عرف بها في عصره، فكان الكلبيون يعظون الناس بلغة جافة خالية متمسكين بمثلهم الأعلى، و هو عدم التملق في الدنيا والتشبث بها،وحث الناس على الزهد والتقشف الذي يعدهم بالفرح والخلود والسعادة هذه الاعتقادات كانت طوبوية محضة أفرزتها اليوتوبيا·
ظل هذا السؤال (كيف ينظم الإنسان سلوكه في الحياة في خضم قوى هذا العصر الساحقة؟) مهيمنا على هذا العصر والتي حاولت فلسفاته أن تجد إجابة عن هذا السؤال، أهمها أن يجتهد الإنسان في السياسة وشؤون المدينة،و أن يهتم بأخلاقياته وأموره الخلقية وسعادته·
هذه الإجابات انخرط فيها أبيقور الساموسي رافضا النزوة الشهوانية واللذات الحسية المتنوعة، فالهدف الأساسي من وجودنا هو تهذيب أحاسيسنا وتحصيلنا المشاعر النبيلةو التحرر من القلق والهموم، فيجب على الناس أن يبتعدوا عن ما يقلقهم وما يزعجهم بما فيها العقائد الدينية السرية، فكان في فلسفته ذريا متأثرا بفلسفة ديمقريطس المادية حتى ذهب به الشأن إلى إعتبار الآلهة كائنات لها أجسام مكونة من ألطف الذرات يعيشون في الفضاءات الفاصلة بين العوالم ، وهذا الذي جعل فلسفته غير بطولية بل رجعية إنتكاسية، شاركت في زرع الرعب حينما اعتمدتها الطبقة العليا والغنية خاصة في العالم الروماني كـ هوراس الذي أعلن صراحة أنه خنزير ناعم الملمس في زريبة أبيقور، غدت فلسفته عقائد دينية إعتنقها الكثيرون من الناس، أما زينون القادم من مدينة كرتون المتأثر بآراء المدرسة الكلبية، خجولا وشديد التواضع يدرس تحت سقوف الأروقة العامة ومن هنا سميت مدرسته بالرواقية، التي دلت على حالته الميسورة، لم يكن يستطيع حتى أن يستأجر بيتا ليدرّس فيه تلاميذته، الذي علمهم كيف يحيون في عالم متنوع المظاهر والأشياء، الأمر الذي جعله ينتهج تعاليم هيراقليطس، على أن النار هي العنصر الأزلي والعالم كله هو صورة الإله الذي يظهر في النجوم و الكواكب وفي السموات، كما أنه جعل أرواح البشر عبارة عن ذرات نارية ناعمة تنجذب إلى السماء، وبناءا على هذه الأفكار أصبح كل ما هو طبيعي هو خير و حق، و الهدف من وجودنا ليس فقط الغرائز و اللذة بل الحفاظ على الكينونة والوجود سواء كان نباتا أو حيوانا أم إنسانا، فعلى الإنسان أن يقوم بأفعاله حسب مواضيعها الأصلية كما قال سقراط فيما سبق و التي وضعها الإله فيه، و على هذا فإن الرواقيين لا يتجنبون المتاعب بالابتعاد عن السياسة وغيرها·
إن الإعتقاد بأن العالم هو تعبير العقل الإلهي (اللغوس)عن ذاته قاد الرواقيين إلى التأكيد على فكرة القدر، وهو الأخر قادهم إلى التقوقع على الذات أحيانا وإلى الإيمان بالجبر والحتمية الدينية أحيانا أخرى، جعلتهم هذه التوجهات الفلسفية غير مستقرين في أفكارهم إنتهى بهم المطاف إلى الإنعزال والخمول، فما يمكن أن نستخلصه من هذه التجارب الفلسفية التي كانت بمثابة الثقافة الوحيدة السائدة في ذلك العصر هو أنها لم تخرج عن إطارها الخلقي و لم تعد بحاجة إلى مدينة واحدة و بيئة و محيط معين لها، لأنها كانت تنحوا إلى العالمية لا تعترف بالحدود الإقليمية غير قابلة للتحقق على أرض الواقع أصلا مثل جمهورية أفلاطون، مواطنو هذه المدينة العالمية ناس طيبون و أخيار بغض النظر عن طبقاتهم وانتساباتهم، فلسفات فضلت الزوايا كمساكن لها خوفا من تقلبات الوجود وغموضه، ولم يعد الحوار مجديا على فهم العالم موطن الشرور والغرائز، فلسفات انطوت على ذاتها مغيبتا العقلانيات الهلينية، من النفس إلى النفس هي علاقات مبهمة يمكن للفلسفة أن تسكن تخومها، تخوم أنجبت عصورا كاملة فرخّت فيها اليوتوبيا كل أحلامها، إنها العصور الوسطى·
PH/ DjazairNews
حوار مع الروائي الكوبي كابريرا أنفتي
لا أحد يعرف أين ينتهي الخيال وأين تبدأ الحياة
يعد الروائي الكوبي، كابريرا أنفتي، صاحب رائعة ''ثلاثة نمور حزينة'' أكثـر الكتاب اللايتينوأمريكين إثارة للجدل سوي بكتاباته النقدية وأو بتصريحاته الصحفية· هذا حوار أجرته معه مجلة لكميرا الإسبانية·
أجرى الحوار: ميغال رييرا
في كتاب القطيعة مع كابريرا إنفنتي اعتبرت رواية ''ثلاثة نمور حزينة'' كما لو أنها مجموعة قصص، هل تؤيد مثل هذا الطرح؟
ناقشت صاحب هذا المقال مطولا حيث أوضحت له أن مثل هذا الطرح هو العبث عينه، لماذا نعتبرها مجموعة قصص؟ لم أصرح أبدا أن العمل رواية بل قلت إنه كتاب يحتوي على مجموعة قصص، كما أنه من الممكن اعتباره مجموعة مقالات.
ولكنك عندما أوضحت أن الكتاب عبارة عن مجموعات قصصية لم تشر إلى بنية النص؟
نعم، ولكن بنية النص لا يمكن اعتبارها عملية تجميع للقصص إذا قرئت هكذا في الحرب كما في السلم، تلاحظ أن القصص قد كتبت عبر مختلف مراحل حياتي يجمعها طابع واحد، ولكن مثل هذا الطرح لا ينطبق على ''ثلاثة نمور حزينة'' التي تعبّر عن علاقة مباشرة بين كل شخوصها الذين يمثلون جزءا من العمل والذي يمكن أن نسميه ''المبتدئون''، قد تلاحظ أن حياتهم تطورت إما سلبا أم إيجابا، عموما أرى أن الحياة التي يعيشونها ليست مثالية بالنسبة لبعضهم إلا أنني أؤكد أن العمل ليس مجموعة قصص.
لنعد إلى موضوع الهيكلة، يقول ليفي ستراوس ''إن الأسطورة هي أحد الأشكال التي لا تمثل أي هيكلة'' هل يمكن تطبيق مثل هذه النظرة على أعمالك؟
لا أعرف جيدا ليفي ستراوس، لم أقرأ له أبدا، لكنني أعرف كتابا له بعنوان ''مناطق الاستواء البائسة''، أظن أن هذا العنوان أكثر من رائع، كما أنني أذكر إحدى الجمل الرائعة التي قالها ''الميلودراما هي إحدى الإبداعات الإنسانية المهمة كما اللغة''، أظنه يعد من أهم المفكرين في المجال الثقافي، أرى أن هذه الفكرة هي شيء أساسي عندما يتعلق الأمر بالموسيقى، فرغم وجود الفكر الطلائعي من ستين إلى سبعين سنة أظن أن الميلودراما تعد شيئا أساسيا في أي عمل موسيقي، هذا هو الشيء الوحيد الذي أعرفه عن ليفي ستراوس، أعلم أن القليل من اطلع على نظريته فيما يخص بنيات القص أو الأسطورة.
كيف توضح أن البنية داخل الألعاب هي عبارة عن لعب؟
أعتقد أن الفكرة التي ترى أن اللعبة الحقيقية هي تلك التي تتوافق ليس مع الكتابة فحسب ولكن مع كل نشاط إبداعي يقوم به الإنسان أنه نفس اللعبة التي نقوم من خلالها بتركيب مقاطع شعرية أو موسيقية· إن مفهوم اللعب في سن الطفولة قد ولى منذ تعديت مرحلة المراهقة، لم يعد يهمني في شيء مشاهدة مباراة في البيسبول رغم أنني كنت جد متعجب بهذه اللعبة، لقد دخلت في حياتي أشكال أخرى من اللعب منها لعبة الكتابة، عندما أهمّ بالكتابة فمعنى هذا أنني أمارس لعبة جد خاصة.
لكن مثل هذا اللعب له علاقة مع العملية الإبداعية؟
بطبيعة الحال، يجب أن تتحلى العملية الإبداعية بصفة اللعب· الفيلسوف الهولندي فزينجا ''"wizinga له كتاب بعنوان ''الرجل الذي يلعب''، حيث أبرز فيه أن اللعب أصبح مودة وأنا أتفق معه في هذا الطرح، يقول هذا الفيلسوف إن استعمال الباروكة في القرن الـ 18 والـ 19 والـ 20 ماهو في نهاية الأمر سوى عبارة عن لعبة اجتماعية· إذن، فالأدب هو أحد أشكال اللعب أنه لعبة اجتماعية لأن العمل الأدبي ليس ما كتبه الأديب فحسب، بل أيضا اشتراكه للقارئ، لأنه لا يوجد أدب بلا قراءة، فالكتابة من أجل الكتابة ليس شيئا مهما في حد ذاته، لذا نجد أن الكاتب هو أول من يقرأ كتاباته، فالكاتب هو الوحيد الذي يعبر عن فكره من خلال ما يكتب، وهذا هو غاية النقد، فكل النقاد يريدون أن يصبحوا ''ناقدا'' فهم يمارسون النقد من خلال قراءتهم للعمل الإبداعي.
لأضرب لكم مثلا زرت أحد نقاد الأدب وهو أستاذ بجامعة يال "YALE" قال لي ''أنتم معاشر الأدباء أسوأ نقاد لأعمالكم الإبداعية''، طبعا أنا لا أؤمن بمثل هذا الكلام، أرى أنه لا يوجد أحسن قارئ كالكاتب أظن أن هذا الإشراك في اللعب يشبه عملية الاستمناء، قد يكون هذا صحيحا لا أعرف، أستطيع أن أقول لك إنه توجد عناصر اللعب في أعمالي، لذا لا أزعم أن ما قد يبدو جادا يجب أن يحمل بمحمل الجد، في ذات الوقت أزعم أن ما قد يبدو لعبا أو نكتة قد يحمل بمحمل الجد.
هل عندما حاولت أن تبين الفرق بين الفن الحقيقي والفن غير الحقيقي أردت أن تقول أن الأول ينعكس على أعمالك؟
إذا سلمنا جدلا أن هناك فن خاطئ فيجب علينا أن نتساءل لماذا خاطئ، مثل هذا التساؤل يدخلنا في لعبة تلك الجملة الضرورية، وهي الفكرة التي تجعلنا نميز الفن الصحيح والفن غير الصحيح.
إن إحدى الجمل التي تتوافق مع ما كتبته توجد في رواية ''ثلاثة نمور حزينة''، حيث أبرزت الفن الشعبي من خلال الكتابة ثم الحدث مثل هذه الفكرة في رواية هافانا من أجل طفل مدفون، حيث أطلت في الحديث عن الفن السوقي· يمكن أن تمثل عدة أشياء شيء واحد، فالموسيقى الشعبية ما هي في نهاية الأمر سوى موسيقى سوقية إن ما عبرت عنه في رواياتي سالفتي الذكر أصبح جد متداول في إسبانيا، حيث أخذ الكتّاب الإسبان على عاتقهم ترويج تلك الفكرة بأنه إذا أردنا أن نتحدث عن الفن، فيجب علينا أن نستعمل الأحرف المبرزة عندما نتطرق إلى موضوع الموسيقى الشعبية والشعر الشعبي كذلك الشأن بالنسبة للرسومات الجدارية أن مثل هذا التفكير قد يبدو لي موقفا على الأقل عند كتابته بالإسبانية. يمكن اعتبار مثل هذه الفكرة كشيء جديد بالنسبة ''الثلاثة نمور حزينة'' بمعنى أنني أبرزت الجانب الهزلي كعامل أساسي داخل العمل الأدبي، حيث اعتبرت أن ديك تراسي ''DICK TRAXY'' كأحد أبطال إحدى الشخصيات.
يشير بيار كلاسترى إلى أن الكلمة في المجتمعات التي تملك دولة حقيقية هي حق للجميع بيد أنها في المجتمعات التي لا تملك دولة هي واجب الجميع، فمن وجهة نظرك ماهي العلاقة من منظور لغوي بين المجتمعات الأوروبية ومجتمعات اللاتينوأمريكية ذات الأصول الهندية؟
أظن أن الأمر لا يتعلق بالجانب اللغوي بقدر ما يتعلق بالجانب الاجتماعي الذي أعتبره أحد أسوأ الدراسات التي يمكن أن تقترب من الظاهرة الأدبية.
أعتقد أن كلمة علوم اجتماعية هي كلمة لقيطة، فمن المستحيل أن نتحدث عن علم واجتماع في نفس الوقت لأنهما ينتميان إلى لغتين مختلفتين.
بعض الأقسام كالقصة، الرواية، الخاطرة هي التي تحدد المسيرة السردية غير أن كابريرا انفتي يتحدث عن شكل جديد في العملية الإبداعية يتميز بها عن غيره ألا وهي استعمال المقالة·
استعملت المقالة كأحد أشكال التعبير الأدبي محتذيا في ذلك حذو يورخس حيث أضفيت عليها طابع الخيال، أظن أنه باستطاعتنا أن نحول المثال إلى سرد خيالي، أرى أن المقال يضع الكاتب في موضع مثالي، حيث يستطيع هذا الأخير أن يجعله شكلا من أشكال التعبير الخيالي، أرى أن كل كلمة لها مهمة محدودة وكل كلمة بإمكانها أن تلد العديد من الكلمات لها بناء وشكل معينين.
أصبحت أهتم كثيرا بالمقال، حيث بذلت مجهودا كبيرا لكتابة لم تظهر ثماره بعد قد لا ندرك بناءه إلا بعد 5 أو 10 عشر سنوات.
مثلا قد ننطلق في الكتابة من خلال عنوان وليس من خلال فكرة أو من خلال مجموعة كلمات، حيث أن الفكرة لا تشكل جزءا من عملية الكتابة.
أنا الآن بصدد تحضير نشر كتاب هو عبارة عن مجموعة مقالات بعنوان كوبالي، حيث أوليت اهتماما خاصا به كما لو أنه كتاب قصص أو ما نسميه اصطلاحا الرواية.
ماذا حدث أيضا مع روايتك أجسام مقدسة؟
إنها عبارة عن رواية أخذت تنمو شيئا فشيئا على مرّ الأعوام، حيث قمت بتقسيمها إلى أربعة أجزاء أرى أنها لم تصلح بعد للنشر، فهي متصلة فيما بينها في نص واحد يتآلف من خمسمائة صفحة تحدثت كثيرا عن أجسام مقدسة شرعت في كتابته ثم توقفت· كتبت سيناريو سينمائي كنت آنذاك جد مريض لذا توقفت عن الكتابة ثم كتبت مؤلفا عبارة عن قسيمات كما هو واضح في ''إطلالة الفجر في منطقة الاستواء'' ثم تركته فاتجهت إلى كتاب آخر ''أتيكا عودة الزيارة'' ليست عودة للزيارة وإنما عودة الزيارة، حيث أعطي فكرة ليس العودة فحسب إنما أقصد من هذا العنوان تلك الدائرة المغلقة، حيث نبدأ من حيث انتهينا وبما أنني أكتب كثيرا وضعت آلاف الملاحظات ولكنني يجب أن أكتب المقالات لأنني أراها شيئا مهما.
لكن ما هو مدى تأثير السينما على السياق الأدبي؟
لقد أثرت السينما على سياق حياتي أيما تأثير، كنت أتردد عليها منذ نعومة أظافري، كانت أمي تصطحبني ومنذ ذلك الحين أصبحت السينما شيئا أساسيا.
أستطيع أن أقرأ سيناريو فيلم قبل أن أشرع في قراءة كتاب ما، لقد تحوّلت إلى شخص جد محب للسينما لدرجة أنني أصبحت أجمع العديد عن شرائط الفيديو إلى جانب الأفلام القديمة، لقد ظلت السينما دائما حاضرة أكثر من الكتاب نفسه، فأنا أشاهد الأفلام أكثر مما أقرأ الكتب. لقد ساعدتني السينما في حل الكثير من مشاكلي أكثر من الكتب، لهذا تجد الكثير من السينما في ''ثلاثة نمور حزينة'' ليست تأثيرا من يذهب إليها إنما تجد تأثيرا عضويا بها.
ولكن حسب وجهة النظر هاته ألا تحيل السينما إلى حياة خيالية؟
بالطبع، توجد هناك حياة خيالية ولكن إلى أين ينتهي الخيال؟ وأين تبدأ الحياة؟ لا أحد بمقدوره أن يحدد في الواقع هذين الأمرين، لهذا لا أستطيع أن أتحدث عن شيء اسمه الواقع الآن، الواقع قد تحوّل في العديد من المرات إلى شيء آخر، إلى حلم، إلى كابوس.
ما الذي تعنيه بالنسبة لك كلمة أمريكا الخلاسية؟
أول من استعمل هذه الكلمة هو خوسي مارتي الذي لم يكن سوى أقل من الخلاسي نفسه أبوه من فالنسيا وأمه من كاناريا، عاش في كوبا 16 عاما، إنه المنفي بامتياز· استعمل هذه العبارة حتى يعارض تبني أمر الولايات المتحدة لهذه الكلمة إبان انعقاد الكونغرس، فرأى في ذلك سرقة لكلمة أمريكا· رغم أن هذه الكلمة كانت توجد من قبل، فهي لصاحبها التاجر الإسباني ذي الأصل الإيطالي أمريكو فسبوتشي ''Americo vespucci'' حيث تمت تسمية كل القارة بهذا الاسم، ولكن يجب علينا أن نمعن النظر فيما إذا كانت كلمة أمريكا الخلاسية قد تنطبق أيضا على بلد مثل الشيلي، الأرجنتين، الأوروغواي، لا أعتقد ذلك، هناك لا توجد خلاسية ظاهرة.

ليست هناك تعليقات: