الثلاثاء، أبريل 4

الروائي والقاص بشير مفتي للنصر

الروائي والقاص بشير مفتي للنصروطارمتخلف عن العصرو يعتبر نفسه أهم عبقرية أنجبتها الجزائر
بشير مفتى كاتب جاد ومبدع يشتغل على رواياته وقصصه بكثير من الحبّ والشعر والفلسفة والجمالية له من المجاميع القصصية " أمطار الليل " و"الظل والغياب " و" شتاء لكل الأزمنة " أما من المتون الروائية فله " المراسيم والجنائز " التي استثمر فيها بعض ملامح الرعب الذي ساد النفسية الجزائرية أيام المحنة والدم ،وله " أرخبيل الذباب " ا وأيضا " شاهد العتمة " الرواية الغارقة في السوداوية والشاعرية أما آخر إصدار روائي له فهو " أشجار القيامة ". في هذا الحوار يتحدث الروائي بشير بكثير من الجرأة والجمالية عن مفهومه الشخصي للرواية وعن من هو الروائي ووظيفة الرواية وغياب القاريء الذكي والأدب الإستعجالي وعن شخصياته الإنهزامية التي تصنع ألق وألمعية رواياته كما تحدث عن وطار وقال بأنّ "أعمال هذا الأخير لن تقرأ لأنّها أقرب إلى الوثائق السياسية" .
الروايات الجميلة عادة ما تكون حسب قراءاتي روايـــات سلبـــيةوأبطالها متشائمــونالنصر: لنبدأ من مفهومك الشخصي والخصوصي للرواية ، فماذا تقول ؟بشير مفتي : أقول بأنّ الرواية هي الجنس القائم على ممكنات متعددة تتيح للكاتب أن يدخل في لعبة مفتوحة تتأسس على الغوص في متاهات التخييل وإعادة قول الواقع فالرواية كما أنظر لها من زاويتي الخاصة هي كتابة مفتوحة أي تتداخل فيها فنون وأنواع لا حصر لها من التعابير وهي بهذا فقط تعطيني الحرية وتدفعني إلى المواجهة ، صحيح أنني أميل إلى توجه معين في الكتابة وعائلة معينة من الروائيين كما هو عادة كلّ الكتاب تقريبا فهناك من يهتم بالشكل والشكلانية وبالموضوعية كما في رواية الوصف التي قدمت لنا روائيين من طراز " آلان روب غرييه" و " ناتالي ساروت " و" بيتور " ومن جاراهم عندنا وهناك من يحيك روايته ببراعة شعرية ولغة فذة ويحكي حكاية جميلة وجمالها طبعا لا ينبع من إيجابية القصة أو أبطال الحكاية فالروايات الجميلة عادة ما تكون حسب قراءاتي روايات سلبية وأبطالها متشائمون وهي تحكي عن التراجيديا أكثر مما تحكي عن الكوميدي المضحك فهي أقرب للجد منها للهزل حتى لو استعملته مثلما يفعل " كافكا" أو " كونديرا " وهناك من يستهويه التاريخ والملاحم والبطولات فيكتب ضمن عائلة الرواة التاريخيين من أمثال " دوماس " أو الحرب والسلم لتولوستوي وهناك من يقدم عوالم نفسية و شذرات روحية أو قطعا صوفية متيمنا بهذا أو ذاك، وأنا من جهتي أميل لعائلة معينة ولا ألوم أحدا في أن يميل لعائلات أخرى يبقى المستوى الفني والجمالي الذي نكتب به هو المعيار المحدد لأهمية النصوص. لهذا لا أنزعج عندما يتناول البعض القضايا السياسية أو حتى فكرة الإلتزام الأدبي بالقضايا العامة لا تزعجني إن وفق الكاتب في قولها جماليا والدفاع عنها أدبيا فهي ستكون أكثر تأثيرا وأبلغ وقعا على وجدان الناس وعقولهم. من الدفاع عن الشعارات والأوهام التي تخدر وتنفر وتكذب أكثر مما تقول الحقيقة وأتصور ماركيز على حق عندما أخبرنا بأنّه إذا أردنا أن ندافع على قضية كبيرة فيجب أن نكتب رواية جميلة. هذا هو المبتغى الأساسي أما غير ذلك فيذهب جفاء.النصر : ومن هو الروائي ؟بشير مفتي : يصعب طبعا تحديد جواب لمثل هذا السؤال، بالرغم من كوني لا أعتقد في وجود شيء خاص يميزه عن غيره من كتاب الأجناس الأخرى. إنني أتصوره كائنا يقتات إلى حد بعيد من حياة الآخرين فهو إلى حد ما أو إلى حد بعيد يعيش من خلال الملاحظة والتجربة والتدقيق في التفاصيل التي لا تشغل الناس العاديين وهي مهمة صعبة وخطيرة ودون شك لها آثار نفسية كبيرة على الروائي. طبعا نحن لا نعقد مثل هذه المسائل، ظنا منا أنَّ الكتابة سهلة وميسرة. أنا تصوري مختلف فكلّ رواية أو وراء كلّ رواية هناك علاقات تنشأ وتتفكك وهناك أحلام تولد وتموت وشخصيات تبرز وتنطفئ. وعمل الروائي إن كان يمكن تسمية ما يكتبه بهذا الشكل يقوم بالدرجة الأولى على التدقيق في حيوات الآخرين وبالطبع تكون حياته أيضا محل معاينة وتدقيق وربما هو يستغل ذاته قبل كلّ شيء أي كلّ ما عاشه وما حلم أن يعيشه وبالتالي الروائي يعيش على الأبعاد الزمنية الثلاث متداخلة في زمن واحد هو الحاضر، بوعي مؤلم وحساسية مفرطة وجمالية شعرية تُذهب عن الحياة الرتابة والملل الذي يميزها عادة.الحلم هو وظيفة الأدب والفنون بشكل عامالنصر: وماهي وظيفة الرواية برأيك ؟ بالمناسبة هناك من يقول بأنّ وظيفة القصيدة هي أن تحلم ،فما وظيفة الرواية يا ترى ؟ .بشير مفتي :أظن بأنّ الحلم هو وظيفة الأدب والفنون بشكل عام فلا أتصور الأمر حكرا على الشعر فحسب وأنا أظن بأنَّ الحلم هو من أهم مصادر الكتابة الإبداعية بشكل عام لأنّه المجال الأكثر غنا وتعددا وكثافة بحيث يسمح للكاتب أن يدخل إلى مناطق متعددة ورحبة وبالنسبة لي حتى الخيال مرتبط بقوة مع الحلم .طبعا مسألة الوظيفة لا أدري إن كانت مهمة أم لا ؟، ولكن بما أنكِ طرحتِ السؤال فسأحاول الرد من موقعي الخاص والّذي يعنيني من رواياتي ليس أن تؤدي وظيفة وتلبي غرضا من الأغراض. قد يكون لها دور ما، ووظيفة ما بحسب من يتلقى هذا العمل وقد يراه من زاويته الخاصة. لا أخفي عليك بأنّني أشعر بهذا اللبس، فمن جهة لا أعتقد في أي دور للأدب وتهمني الكتابة بشكل حر وخاص. ثم هناك في رواياتي قضايا سياسية واجتماعية وهذا ما يقلق بالفعل، فهي ثانوية بالنسبة لي، لكن سياق التلقي المرتبط بالخارجي والمواضيع يجعلها أكثر أهمية من أي مستوى آخر. ربما يكون بالنسبة لي أهم وأعظم .النصر: يقول الروائي رشيد بوجدرة :" صعوبة الرواية الحديثة ترجع إلى إحتياجها إلى قاريء ذكي " أنت كروائي ألا تعتقد بوجود هذا القاريء الذكي ،وهل هناك قاريء نخبوي فقط ؟. بشير مفتي : أحيانا ما يثير الإحباط في الروائي المجتهد أو على الأقل الذي يحاول أن يخرج على النمط والمستهلك والمجتر هو غياب القارئ الذكي أو القارئ الذي يستطيع أن يستوعب بشكل متميز ما يقرأه و ما يقدمه له الروائي من خرجات فنية أو حتى فكرية تمس الموضوع. أي عزلة النص المجدد وأستعمل كلمة " مجدد" بحذر فهي مثل مقولة " الحداثة" تحتاج من وجهة نظري إلى تأمل وتبصر نقدي ذلك أنّه تحت هذا الشعار الذي يرفع بحق ومن غيره قدمت لنا الكثير من النصوص في ثوب مغلق أي أنّها لعبت دورا سيئا في تحقيق ما تصبوا إليه النصوص الحديثة نفسها التي لم تأتِ لفصم العلاقة مع القارئ وبتر أي حوار ممكن ولكن لخلق حوار جديد . لعبة الغلق والغموض والتلاعب اللغوي المبني على وعي مشوه بالدائرة التواصلية خلق نفورا كبيرا من الروايات شبه الحداثية بل تلك التي تدعي الحداثة وما بعدها وتعجبت من رواية جزائرية تصدر مؤخرا ويكتب على ظهر الغلاف "هذه الرواية نص حديث جدا" ولا أدري من أقر له بهذا هل هو الناشر أم الروائي نفسه. وهل عندما نستعمل حديثة جدا سنثير إنتباه القارئ إلى التنحي عن الطريق لأنّه نص مكتوب لمن هم حداثيون جدا أم القصد والغرض جلب هذا القارئ ثم ما أن تقرأ الرواية حتى تصاب بصداع لا قبل لك به. أعتقد بأنَّ القارئ اليوم بحاجة إلى نصوص حديثة بالفعل ليخرج من تفاهة السطحي والمبتذل لكن أي حداثة نريدها الآن؟ هل تلك التي تجرب بلا وعي وأقصى أهدافها أن يقول عنها النقد المفبرك أنّها حداثية؟ أم تلك التي تخاطب القارئ المفترض وتستدرجه لغوايتها وتفتح نوافذ متعددة للحلم والتأمل والخيال. إنَّ الرهان يكمن في كيفية إستدراج القارئ إلى النص ليس بالتوابل المستهلكة كالجنس والسياسة والدين والتي أصبحت تستعمل اليوم ليس كتجارب تروم إلى كسر المحرم ولكن إلى الإثارة وكسب الشهرة بغير حق. أظن بأنَّ الرواية الجزائرية باللغة العربية خاصة كما في السبعينات قد هجرت القارئ الجزائري ونحن نسعى كجيل جديد وكلّ بطريقته الخاصة إلى إعادة هذا القارئ إلى روايتنا الجزائرية بعد غياب طويل.النصر: تقول فضيلة الفاروق :" اللغة شغل الشعراء ،لغة الرواية تأتي إليك ،وليست كلغة الشعر التي يذهب إليها الشاعر ويبحث عليها " هل حقا اللغة هي إشتغال الشاعر وليس الروائي ،مارأيك أنت خاصة وأنّ القاريء لرواياتك وقصصك يكتشف بأنك تشتغل على اللغة بحرفية شعرية خالصة ؟ . بشير مفتي : مسألة اشتغال الروائي على لغته هي في صميم العمل الأدبي فالأدب هو قبل كلّ شيء عمل على اللغة ولكن بما أنّ الرواية تقوم على السرد والتفاصيل فهي تفتقد إلى ذلك البناء اللغوي المحض الّذي قد يكون من خصيصة الشعر بالدرجة الأولى لكن هذا لم يمنع بعض الروائيين من تقديم نماذج على قدرة خارقة في هذا الإستثمرار ولعل نموذجا من مثل " سليم بركات " خير من يدلل على هذا. لا أخفي عليكِ بأنّني أقرأ بصعوبة روايات هذا الأخير فمرة قعدت أكثر من شهر وأنا أفكك لغة "الأختام والسديم" التي هي عمل مدهش ومروع. إنّها نصوص لا يمكن أن تكون مكتوبة للجمهور العريض من الناس بل حتى المثقفون يشتكون من عسر هضمها وربما أيضا يدخل"إدوار الخراط" في هذا الصنف الّذي يختار هذا التوجه البروستي وحتى ما فعله جويس في "أوليس اللعينة" إنّها تجارب مخاطرة بالدرجة الأولى. عليَّ أن أعترف بأنني لا أتعامل مع اللغة بهذا الشكل الكثيف وقد يحدث ذلك فيما بعد لأنََّ الأمر على ما أتصوره يتطلب نضجا وخبرة تحتاج إلى وقت وتفرغ حتى نتمكن من تحقيق ذلك. أما حضور اللغة الشعرية ومسألة الشعر فهي تدخل بالدرجة الأولى ضمن تصوري للرواية على أنّها نص مفتوح متعدد أو كما يمكن تسميتها بأرض التكاثر و لهذا فأنا أعدد المستويات والطبقات والحفر بداخل مناطقي الغامضة والمعتمة علَّ ضوءا ما ينير الدرب ويفتح الأفق لا غير.الأدب جحيم من نوع آخر، ولكنّه كذلك نعيم من نوع خاصالنصر: قلت لي ذات مرة في سياق الحديث:" أمارس الكتابة كي أثمن تجربتي الكتابية ولا أستعجل الطبع "،الآن ماذا يمكن أن تحكي لنا عن هذه التجربة تحديدا ؟.بشير مفتي : لا أخفي عليك بأنني مندهش شخصيا من مساري الأدبي ومن هذه التجربة التي تأخذ عندي اليوم مكانة خاصة. لقد أصبحت أقدس الأدب بالفعل وأحس بأن علاقتي به تعمقت أكثر وفي سياق جزائري يسخر من كلّ شيء، ويحقر كلّ عمل رمزي لا يذر أرباحا مادية، أو منافع مجسمة، في سياق ثقافي يمثله أدباء مرتزقة ومثقفون مرتشون تعودوا على بيع ذمتهم لمن هب ودب وأدباء يكفرون أمامك يوميا بالأدب. تصوري أنني أعتقد في هذا الأدب نفسه، و أجدني مرتبطا به. ولا يمسني تلويث المحيط الّذي يطالبك بالحصول على مناصب ومال وسكن وجاه وغير ذلك. هذه الأشياء تركتها لهم، وأستطيع أن أتنازل عليها لو كان بيدي ذلك، فقط لقد بدأت أشعر بقيمة الأدب الّذي ينقذك ِ من الكثير من السفاسف والحمق والبلاهة. وهذا لا يعني أنني شخص مثالي ويريد أن يعيش في برج عاجي، بل بالعكس الأدب يرميك في قيعان الواقع، ومتاهات الشك ويعقد رؤيتك، ويفتح شاشات داخلية لم تكن متبصرا بها على الإطلاق. الأدب جحيم من نوع آخر، ولكنّه كذلك نعيم من نوع خاص، وعندما أقول أنني أصبحت أعتقد في الأدب، فهذا يعني أنني أصبحت أشك في قدراتي كلها. أشك في نصوصي. أشك في ما أكتبه. أشك في ما يمكن أن يقدمه الأدب لشخص مثلي يريد أن يهب نفسه كما فعل فاوست للشيطان. لقد بدأت الكتابة مثل غيري لحضور الملتقيات، ولقراءة توقيع الإسم في آخر الصفحة من جريدة يومية، ثم شيئا فشيئا كانت القراءة تؤثر وتنفذ بسمومها إلى الداخل البعيد، فتحدث نقلة قوية وتذهب بك إلى ما لم تعتقده أبدا من قبل، ولم يخطر على بالك بتاتا. سأخبركِ بحادثة طريفة للغاية. عندما كنت في فرنسا بإحدى الإقامات الأدبية وصلتني روايتي المترجمة إلى الفرنسية من دار النشر " لوب" . لم أفرح قط بصدور كتاب كما فرحت ساعتها. شعرت بأنني أصبحت كاتبا حقيقيا. إنّه لأمر مدهش لم أشعر به طوال نشر رواياتي بالعربية في الجزائر. لا أدري لماذا؟ ولكن هذا ما حدث لي، ولعلني اليوم أشعر بثقل هذا الكاتب الحقيقي الّذي صرت أفترضه في. ما أريد الوصول إليه هو شبه نصيحة لكلّ الكتاب المبتدئين. لا تبيعوا ذمتكم من أجل أوهام صغيرة. ثقوا في الأدب وستصلون إلى شعور داخلي بسيط للغاية يمكنكم بعدها من القول أنَّ الأدب كبير لهذا السبب بالضبط. النصر : فرحك بصدور روايتك المترجمة ،ربما مرده إلى إحساس داخلي بأنّها ستصل إلى القاريء العالمي الإفتراضي أو المفترض أصلا؟.بشير مفتي : لا لا أبدا لم يكن فرحا بهذا الشكل، ولكن لأنّها توجت تجربة من الكتابة الروائية ولأنَّ شروط النشر تحققت في نصي حتى تمكن الآخر من الإهتمام به، ونشره. لقد قالت لي الناشرة الفرنسية أن عملي مختلف عن الروايات العربية وربطت نصي بكافكا وهذا يعني أنَّ كتاباتي لا تنخرط في نفس التيار السائد في الرواية العربية وأقصد الروايات العربية الجديدة لأنَّ هناك رواية عربية جديدة تحدثت عن الكوابيس والفزع وهي جميلة ومتميزة لكن الأمر بالنسبة لي مختلف لأنَّ السياق الجزائري لم يجعلني أتخيل كوابيسي ولكن أعيشها. أقول هذا الكلام طبعا دون تواضع كاذب، أو إفتخار مزيف.
يتبع الأسبوع القادم
حاورته / نوّارة لحرش

























ليست هناك تعليقات: