الثلاثاء، أبريل 4

الفـــــرانكوفـــونيــــــة في مــــــأزق

عن المركز والهوامش الفـــــرانكوفـــونيــــــة في مــــــأزق
ما يزال مصطلح "الفراكوفونية" في الجزائر يثير حساسية أيديولوجية تمتد إلى مضاجع مستعمر الأمس، بالرغم من مرور ما يقارب نصف القرن من استعادة الجزائر سيادتها. الأسباب متعددة. ويزيد من ترسيخ بقائها خطاب تتداوله الأوساط الثقافية والسياسية في الجزائر مناسباتيا. والنتيجة مزيد من الضبابية حول المسألة وأجيال من المزايدات تكبر وتتوالد ومعها تزيغ بوصلة التابع بزيغ المتبوع في سيل محض أحكام... إلى أن جاء معرض باريس الدولي الـ26 للكتاب محتفيا بالفراكوفونية، وفي خضم ذلك بدا نوع من التململ الشبيه بالتساؤل في أوساط الفراكوفونيين أنفسهم... هنا بعض من معالمه الأولى متأخرة.
إعداد: م.ع.كريم
يوضح المعجمي الفرنسي ألان راي أن مفهوم الفرانكوفونية لا يعود إلى 1880 تاريخ نحت الجغرافي الفرنسي أونيزيم ريكلوس (1837-1816) للفظ "الفراكوفونية" في كتابه "فرنسا والجزائر والمستعمرات"، ولكن إلى تاريخ أبعد يحدده بفضاء اللهجات الغولية الرومانية الذي كان يشمل فرنسا وجزءا من سويسرا وبلجيكا حاليا.. "إنه لهجة سياسية وشعرية أو أدبية تنتشر خارج فضائها الأصلي؛ في انجليترا مع حملة غيوم عليها، وفي المشرق مع الحروب الصليبية." غير أن التاريخ المتأخر لهذا المفهوم يشير إلى أن "الفرانكوفونية"، وبداية من القرن الـ16، ليس مفهوما محايدا، بل تكوّنت في إطار استعماري محض كونها صارت تنطبق على مدلول اللغة الفرنسية المنتصرة في الجزائر في اتجاه توطيد هيمنة لغة عالمية في مقابل لغات استعمارية أخرى كالإسبانية والبرتغالية والإنجليزية. وقد تطور المفهوم فيما بعد متفاعلا مع ظروف فرنسا السياسية وعلاقاتها المتشابكة والملتبسة في آن مع مستعمراتها القديمة، حتى صارت الفرانكوفونية تدل حينا على "شكل سلعة رائجة تنسحب على بلدان وسلط ومبدعين لأغراض متناقضة". كما يحددها ألان راي بكونها "مجموع المتكلمين الذين يستعملون الفرنسية بانتظام سواء أكانت هذه اللغة هي اللغة الأم أم الوطنية أو لغة التعليم أم هي ثمرة اختيار فرضه التاريخ أم هي عبارة عن انتماء شخصي". هذا من ناحية المفهوم. أما من الناحية التنظيمية فتجدر الإشارة إلى أن الفرانكوفونية هي المؤسسة العابرة للحدود الجغرافية والإثنية الوحيدة التي تقوم على أساس لغوي. وتستهدف تجميع أطراف إمبراطورية تتشكل من لغة وثقافة وقيم جمهورية. وهي المبادرة التي تأسست عليها منظمة بلدان الفضاء الفراكوفوني بمبادرة من بعض سياسيي ومثقفي بعض المستعمرات الفرنسية السابقة مثل ليوبولد سيدار سنغور والحبيب بورقيبة وهماني ديوري ونورودوم سيهانوك من أجل التفكير ووضع إطار للتحالف لما بعد الاستعمار، تحالف في مجال التعاون المتوازن مع الميتروبول السابق. وهو ما يعد تحقيقا لحلم ريكلوس من حيث أن المفهوم هذه المرة يشمل الفضاء اللغوي والجيوسياسي والثقافي والتاريخي، ويضم أكثر من 50 دولة عبر قارات العالم الخمس ويحظى بميزانية تقدر بأكثر من 83 مليون أورو.الجزائر فراكوفونية رغم أنفهاتفيد بيانات إحصائية منشورة في مجلة "ماغازين ليتيرار" الفرنسية الصادرة شهر مارس المنقضي بأن نسبة المتكلمين الجزائريين باللغة الفرنسية بانتظام تتراوح بين 25 و75 % من مجموع السكان. وهي نسبة تجعل الجزائر تترتب مباشرة بعد دولة المتروبول السابق حيث يتحدث الفرنسية أكثر من75 % من السكان. ورغم هذا لا تنتمي الجزائر رسميا إلى منظمة الفرانكوفونية. مهما يكن من أمر فإنه لا يمكن بحال تصور أن تكون النسب السابقة عارية من الصحة. غير أن سمة التعميم فيها تجعلها بكل تأكيد خاطئة. كون أن أغلب المتحدثين بالفرنسية عندنا ينتمون على أقل تقدير للفئة العمرية ما فوق الخمسين سنة. وهو ما يوحي بالرجوع إلى معطيات ديموغرافية بعود إلى 1962، وإلا فإن الفئة العمرية المقصودة لا تمثل الآن إلا أقل من 20 % من السكان. فما الذي ينبغي أن يحدث حتى تقفز الـ20 % إلى حدود الـ75 %؟.الذي ينبغي أن يحدث بكل بساطة، ودون الغرق في تفاصيل البيانات الموجهة توجيها، هو تفصيل خطاب ( أو خطبة)، سياسي متحمس يرشح بالحنين لليالي الخوالي التي حاول قانون 23 فيفري إذكاءها ببصيص من الشرعية الورقية.كمالم تغفل "المجلة الأدبية" في احتفائها بالفراكوفونية اسداء بعض من طقوس الاعتراف لمن خدمها من الجزائريين، حيث تضمن سجلها مثلا اسم الرواية كاتب ياسين "نجمة" في المسرح الفرنسي، اقتباس محمد قاسمي وإخراج زياني شريف عياد (2003)، واسم الروائي محمد ديب الذي نال الجائزة الكبرى للفراكوفونية في 1994، وأخيرا انتخاب آسيا جبار في الأكاديمية الفرنسية... وستأتي أسماء جزائرية أخرى لتملأ بعض خانات السجل الفخري للفراكوفونية لاحقا، ولكن بنظرة تفرق بين ما هو سياسي وما هو غير ذلك، كما تفرق بين ما يمكن استخدامه سياسيا وما يمتنع عن ذلك. بمعنى: بعيدا عن الأيديولوجية "الأيديولوجوية". ويبدو أن الجدل الذي شهدته صفحات ملحق الكتب لجريدة "لو موند" الفرنسية بين الكاتبين اللبنانيين أمين معلوف وألكسندر نجار يؤشر للسير في هذا الاتجاه. حيث يرى أمين معلوف المتوج بجائزة الغونكور في 1993 أن "العالَم يحتاج إلى فرنسا فقط حين تُدافع عن قضايا عادلة". غير أنه، وهو القادم من لبنان يستطيع أن يشهد بأن "العالَم لا يحتاج إلى أي فرنسا. العالَم ليس له ما يفعله بفرنسا باردة (من الجفاء) وفاقدة للبوصلة، تريد أن تحمي نفسها من أطياف عمال بولونيين سارقي شغل الفرنسيين، وتريد أن تنأى بنفسها، بأي ثمن، عن هؤلاء الشعراء الأجانب القادمين من الأقاصي لسرقة لغتها". وليس هذا وحسب، حينما يلتفت إلى ما يخصه في الموضوع، وهو ما يصطلح عليه بـ:"الكاتب الفراكوفوني"؛ حيث يرى صاحب رواية "صخرة تانيوس" أن "هذا المفهوم لا يقوم على أي معيار محدد. ويقود إلى نوع من "الغيتو" ويخلق تمييزا غير مقبول بين الأدب الفرنسي والأدب المكتوب من قبل الأجانب بالغة الفرنسية". ومن جهته يرد النجار على مواطنه مدافعا عن المفهوم قائلا:" إن هذا الوضع يمنح الكاتب الفرانكوفوني نوعا من العالمية، إذ يضعه منذ البداية في تجمع يضم حاليا حوالي 50 بلدا فراكوفونيا. كما يمكنه من التوجه إلى نوعين من الجمهور: الجمهور المباشر الذي يقاسمه فضاءه المرجعي وجمهور آخر بعيد يعيد إليه ثقافته الفكرية".وإذا كان هذا مذهب أديبين فراكوفونيين من لبنان، يسجل الكاتب ألان مابانكو بوضوح أن "الأدب الفرنكوفوني لا ينتمي إلى الآداب الفرنسية". إذ لا ينظر إلى الأدب الفرنكوفوني من باريس، "إلا باعتباره أدباً للهوامش، أو الأدب الذي يدور بسرعة حول الأدب الفرنسي، أي حول أبيه الشرعي. وهذا الترتيب يضرّ، في العمق، بالأدب الفرنسي، في الوقت الذي لا تعاني فيه الفضاءات الأنجلوفونية أو الإسبانوفونية والناطقة بالبرتغالية، القادمة من الخارج، من أيّ إخضاع لنظام تسلسلي". ويصل الكاتب إلى موقف لا يغيب عن بال أي ملاحظ أجنبي حين يتعلق الأمر بكاتب قادم إلى اللغة الفرنسية من بلد آخر غير بلدان المستعمرات السابقة، أي من روسيا أو من تشيكيا أو من رومانيا وغيرها، ويعبر عن المرارة فيكتب، متسائلا:"هل إن هذا التقييم التسلسلي هو الذي يجعل كُتَّاباً مُحبّين للفرنسية والفرنسيين ـ أقصد بهؤلاء الكُتّاب الذين قدموا من دول غير فرنكوفونية ـ أكثر اندماجاً في الآداب الفرنسية؟ وهكذا نجد أن مُؤلَّفَات ماكين (روسي) وسيوران وسمبروم وكونديرا وبيكيت توضع في رفوف الأدب الفرنسي، بينما توضع مُؤلَّفَات كوروما ومونغو بيتي وسوني لابو تانسي في رفوف الأدب الأجنبي، على الرغم من أنها كُتِبَتْ باللغة الفرنسية". ويرى الكاتب أيضا أنّ دور النشر الفرنسية هي الأخرى، ضالعة في هذا التمييز وهذه التراتبية. "إن دور النشر الفرنسية تنشئ مجموعات وسلاسل أدبية خاصة للكُتّاب الأفارقة. يتعلق المرء بمسألة قابلية الرؤية بالنسبة لهؤلاء الكُتّاب، إلا أن هذا النزوع إلى الغيتو قد ينتهي إلى وصول مداه في يوم أو آخر. هذا النزوع الغيتوي ينتقص ويحطّ من قيمة تعبير فترة بأكملها، ويمنح ثقافة قطيع تتأسس شرعيتُهَا الوحيدة على هوية لون البشرة أو المكان الجغرافي للكُتَّاب. هؤلاء الكتّاب المعزولون والمحبوسون في سجون ضيقة محكومٌ عليهم حمل وِزْر ايديولوجيا لا تتطابق مع استقلالية الخلق والإبداع. إنهم سينبحون ولكن نباحَهم لن يتجاوزَ بالمَرَّة حدود أزقة مسدودة". لن يتجاوز حدود أزقة مسدودة، رغم إغراء خطاب قطاع كبير في الثقافة الفراكوفونية قائل:" لا تعين الفراكوفونية آدابا وافدة من الخارج وحسب، بل وأيضا طرقا أخرى لرؤية العالم"... ولكن لتكن هذه الطرق الأخرى ذات هوية متميزة تسامق طرق رؤية العالم التي تفصح عنها اللغة الأم: الفرنسية.

























ليست هناك تعليقات: