الأربعاء، أبريل 19

آباء الكتابة في الجزائر ينتحرون بإطلاق رصاصة الرحمة على أنفسهم

الكاتب واسيني الأعرج لـ"النصر"
آباء الكتابة في الجزائر ينتحرون بإطلاق رصاصة الرحمة على أنفسهم

يتناول الكاتب واسيني الأعرج في الجزء الثاني من هذا الحوار مع "النصر" العلاقة التي تشده لرواية "رمل الماية فاجعة الليلة السابعة بعد الألف" واصفا هذه الأخيرة بالخاصة، ومعتبرا إياها انتقاما غير نبيل من مظالم السلطان. ويشير واسيني بخصوص مسألة الأب الإبداعي إلى ضرورة التفريق بين الأب الإبداعي العظيم والأب التاريخي. كما يصف آباء الكتابة في الجزائر بالمرضي بداء إرث الحركة الوطنية ليس بنضالاتها وحسب، ولكن بحسدها وحقدها وجرائمها أيضا. ذاهبا إلى أن أباء الإبداع في الجزائر لا يقتلون من قبل الأبناء، بل ينتحرون بإطلاق رصاصة الرحمة على أنفسهم

حاوره: م.ع.كريم

قلتم في تصريح سابق إنكم أكثر ارتباطا برواية "رمل الماية" من غيرها من إبداعاتكم. ما الذي يشدكم إلى هذا النص بالتحديد؟

الرابط الأول ذاتي. ذلك أن لكل واحد منا نقطة تمركز بالنسبة إلى الحياة أو التركيبة النفسية أو الاهتمامات الشخصية التي تشكل مجملة نقطة التثبت بتعبير النفسانيين. ثم إن الإنسان يميل على الدوام إلى البحث عن الأصول ومن هنا السؤال: لماذا أنا على هذه الشاكلة؟ هل هذا المآل هو نتيجة لتضافر مجموعة من المعطيات البيولوجية والاجتماعية والثقافية أم هو وليد طفرة تاريخية؟
أنا لا أميل إلى الطرح الثاني لأنني شخصيا على قناعة بأن هناك ما يشبه الجين أو المناخ الذي يأتي من أصول بعيدة.. ومن خلال انكبابي على البحث في الموضوع وجدت أن أصولي الشخصية، مثلا، ربما تعود إلى الموريسكيين، أو أن أصول العائلة قادمة من الأندلس بعد عملية الترحيل الكبرى. وهو ما قادني إلى التساؤل عن الشيء الذي دفع أجداد الكثيرين منا لاختيار الرحيل من الأندلس على التمسيح والبقاء هناك. وقد اكتشفت من خلال ما كانت تحكيه الجدة والجدة بالمناسبة، هي التي فتحت عيني على اللغة العربية ودفعتني إليها دفعا حيث كان يمكن بكل سهولة أن يكون مصيري كمصير الكثيرين من أبناء جيلي الذين فتحوا أعينهم فوجدوا أنفسهم أول ما دخلوا المدرسة في أقسام فرنسية غير أن جدتي كانت تقول لي إذا أردت معرفة تاريخ جدودك، عليك بتعلم العربية. فمرة أخرى ما سبب رفض الجد للتمسيح وتفضليه بدلا عن ذلك الرحيل إلى بلاد أجداده بعد ثمانية قرون ونصف من الاستقرار في الأندلس؟ ثم ما الذي قاد الوالد بعد ذلك بقرون لأن يلتحق بالثورة عبر فيدرالية فرنسا، بالرغم وضعه المقبول اجتماعيا وماديا هناك؟
والشيء الثاني الذي يشدني إلى هذا العمل هو علاقتي بألف ليلة وليلة، وعنوان الرواية يحيل بصراحة على هذا العمل السردي الخالد. وهنا أذكر أن لقائي أول مرة بألف ليلة وليلة كان لقاء من نوع خاص أيضا، حيث أخذت نسخة من الكتاب من مكتبة مسجد قريتي وكنت آنئذ أظن أنه قرآن، لكن عندما شرعت في قراءته لاحظت أنه مختلف عن القرآن الذي أتعلمه في الكتاب. وشيئا فشيئا بدأت أكتشف عوالم جديدة بالنسبة إلى وعيي في ذلك الوقت فحدث أن كانت ألف ليلة وليلة أول كتاب أستعيره من المسجد ولا أعيده إليه نهائي، وما تزال النسخة محفوظة في مكتبتي إلى حد الآن. ويبدو أن إحساسي بسحر الكتابة واللغة والحكاية بدأ من هنا. وفاجعة الليلة السابعة بعد الألف بنيت على كل هذا الإرث الذاتي والتاريخي فيما بعد.

ثم ألا تجد في هذا الإصرار على مواصلة سحر الحكاية والإغراء به نوعا من الانتقام النبيل من سطوة السلطة ومظالمها وخدع السياسة من خلال استعادة دنيازاد للسان القول والحكاية؟
هو انتقام، نعم... ولكن ليس نبيلا، بل هو انتقام من مظالم السلطان بالمعنى المطلق. فعندما كتبت هذه الرواية كانت الجزائر مشرفة على الحرب الأهلية الأولى، وأعني بها أحداث أكتوبر 1988. ومن هنا الإلحاح الضمني على طرح السؤال التالي في الرواية: لما يفتقر العرب والمسلمون حاليا لنموذج للحكم ؟ في آسيا هناك النموذج الياباني والصيني، وفي إفريقيا هناك النموذج الجنوب إفريقي، ولا داعي للحديث عن النموذج أو النماذج الأوروبية. أقول هذا لأن العرب والمسلمين عرفوا في فترات النور من تاريخهم نماذج للحكم، بل ونماذج عليا. والآن لماذا كلما تأخذ ملامح نموذج ما في الظهور تبتر التجربة ولا تبلغ مداها داخليا وخارجيا؟ بل يبدو أن الداخل يوفر كل شروط الانكسار لها. ومن هنا فصحيح أن هذه الرواية أو جانبا منها انتقام من هذا السلطان.. ومن السلطان لا بمعناه الفردي، بل كقوة لاغية لكل تطور يتوجه لبلورة نموذج للحكم، كون أن خلق النموذج يدفع باتجاه اتباعه، وبالتالي التحرر من النموذج البالي. ويبدو أن السلطان في الرقعة العربية الإسلامية يمنع خلق هذا النموذج. كما يأتي الجزء الثاني من الرواية "المخطوطة الشرقية" في الاتجاه نفسه ولكن بطرحها الموضوع في الوضع الراهن كون أن الجزء الأول تناول المرحلة الأخيرة من الحكم الإسلامي في الأندلس والثاني المرحلة المعاصرة، وكنت أتمني أن أنجز جزءا ثالثا أتناول فيه وصول الحركة الإسلامية للسلطة وتسييرها لنظام الدولة كونها الممر الواجب على البلدان العربية المرور عليه. وفي هذه الحال من الواجب انتظار قرون قبل ظهور ملامح للتغيير، إذ ينبغي على هذا النظام دخول حلبة الحكم للشروع في عملية التفتت لخلق نظام جديد. فالمجتمعات العربية في وضعها الحالي جامدة ولا تتطور، وحينما ينعدم التطور في مجتمع من المجتمعات فذلك يعني الارتداد إلى المأوى الديني لأنه هو الذي يوفر له ما يحتاج إليه من حلول. وهي في الواقع حلول وهمية.

أثار الكاتب رشيد بوجدرة مِؤخرا مسألة حوار أجيال الكتابة في الجزائر باستياء، ودعا من شاء من كتاب الجيل الجديد لقتل الأب الإبداعي على الطريقة التي فعلها بها هو مع كاتب ياسين حينما تجاوز معلمه الإبداعي نجمة.. أولا: هل لواسيني أب إبداعي يحرص على قتله؟
أقول إن لي آباءا لا أبا واحدا. منهم من هو بمرتبة المعلم أو "الشيخ" بتعبير المهتمين بالغناء الشعبي عندنا، ومنهم من هو دون ذلك. فغابريال غاسيا ماركيز أب بالنسبة إلي مثلا. والأب الإبداعي يمتاز بأنه حاضر ذهنيا بشكل ما حينما تكون بصدد الكتابة؛ في صورة الشيخ الذي أتعلم منه أو ما دون ذلك، مع وجود مسافة بيننا ودون الدخول معه في الصراع. فهو لم يدخل فراش أمي اللغوية حتى أعمل على قتله. أما أبائي في الجزائر، بمعني الذين فتحت عيني عل صورهم في الكتابة، فهم عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار، وبدرجة أقل أحمد رضا حوحو. وبخصوص الصراع مع الأب الإبداعي، فدعني أقول لك إن الصراع عادة ما ندخله مع الأب الحي لا الميت الذي لا يعنينا في شيء. فالعلاقة مع بن هدوقة علاقة هادئة كون هذا الأديب يعرف الكتابة أكثر مما يعرف شيئا آخر، أو ذلك هو طبعه في علاقاته مع الآخرين. والصراع حدث مع وطار، وفي المدة الأخيرة بلغ نقطة الانفجار وحدث ما حدث. والواقع أن الأب الكبير والعظيم في تصوري هو من يقبل بك كابن أولا، وهو أيضا من يقبل في لحظة من اللحظات بالاعتراف بضرورة التنحي جانبا وفسح المجال أمام من يجيء بعده. وهذا ما سلم به بن هدوقة. أما من يقيم الحواجز في طريقك ويدعك تصطدم بها قبل أن تنجح في فتح طريقك في مجال الكتابة ناسيا أنه سيقع هو أيضا ضحية الحواجز التي أقامها كونه يمثل، في هذه الحال، أحدها، فمصيره يكون مأساويا قبل أن يحدث الصدام. ولهذا أتصور أن ما يجري عندنا ليس هو من قبيل قتل الأب، ولكنه انتحار للأب. فالملاحظ أن الأب عندنا يلجأ لإطلاق رصاصة الرحمة على نفسه لكي يحرمك من فضل قتله. فوطار مثلا قتل نفسه بنفسه. فالسجال الذي خلقة وردود أفعاله وما يكتبه كلها تبين أن هذا الرجل ينتحر إبداعيا. والواقع أن جيل الحركة الوطنية له مشكلة كبيرة مع نفسه. فبالإضافة إلى أنه حامل لإرث الحركة الوطنية بنضالاتها، فهو حامل لإرث هذه الحركة بأحقادها وحسدها وغيرتها، وأحيانا بجرائمها. ثم قام بنقل كل ذلك إلى فترة ما بعد الاستقلال التي لا علاقة لها بما سبق، فأنا مثلا، أقرأ الحركة الوطنية كتاريخ ولست مطالبا بأن أعيش شروطها من جديد... أعلم مثلا أن عبان رمضان اغتيل اغتيالا شنيعا.. وفي الكتابة ينبغي التمييز بين جيل يتعامل مع التاريخ بوضعه جانبا وتحويل مادته إلى مادة إبداعية، وهناك جيل حوله إلى رهان لقتل الأبناء، لا قتل الأب حيث يقف بالمرصاد أمام أية تجربة جادة، وحينما يواجه تجربة يجد نفسه عاجزا أمامها يستل مسدسه ويطلق رصاصة الرحمة على نفسه كي لا يمنح الابن فضل القتل الرمزي للأب.
ومن الناحية الأدبية البحته، وبعيدا عما حصل لي مع وطار، أقول إن كل آبائنا، وأستثني منهم محمد ديب وكاتب ياسين بالفرنسية وعبد الحميد بن هدوقة بالعربية فقط، كلهم، مرضى بمرض الحركة الوطنية. فكل واحد منهم يرى في نفسه مركز العالم وما عداه يجب تصفيته إبداعيا. ولا تعوزني هنا الدلائل سواء بالنسبة لعلاقات بعض المفرنسين مع بعضهم أم علاقات بعض المعربين مع بعضهم أم بين بعض المفرنسين والمعربين أو العكس. ومصدر كل هذا هو الأنانية وغياب نظرة شاملة للمسألة الثقافية والإبداعية في الجزائر. وهذا ما لا نجده في الكثير من البلدان العربية، وأقرب مثال إلينا جيراننا في الجانب الغربي من شمال إفريقيا.


ليست هناك تعليقات: