الأربعاء، أبريل 19

خطبة بن جلول الأخيرة أمام ضريح بن باديس

ها أنا اقدم باللغة الفرنسية أمام هذا القبر احتراماتي السامية للشيخ عبد الحميدابن باديس، اقدمها له بهذه اللغة التي كان الشيخ يرغب لو أنه تعلمها وتكلم بها علما أنه كان يفهمها من غير أن يكون قد درسها قط، والتي كان غالبا ما يفهم معانيها والفروق المتنوعة بينها وقد كان في استطاعته- ما في ذلك شك- أن يتفهمها بلباقة نادرة وما اتقان أخيه الزبير لها الا دليل على ذلك، وكان الشيخ يعتبر الفرنسية مثلنا لغة الأم الثانية، أعلم أنها أوكلت الي مهمة شاقة جدا، وفي الوقت ذاته تعتبر امتيازا مؤلما حقا، وسأبذل قصارى جهدي للنهوض بها بعناية فائقة.عرفت الشيخ ابن باديس عندما كان تلميذا صغيرا في مساجد قسنطنة، حيث كان مواظبا على متابعة الدروس التي كانت تلقى فيها في ذلك العهد اي منذ 30 سنة من طرف شيوخ أمثال حمدان بن لونيسي والشيخ عبد القادر المجاوي والشيخ أحمد الحبيباتني وغيرهم، وقد تميز بقدرته الفائقة على العمل وكذا السهولة التي كان يدرك بها مسائل التعليم الديني وامتاز بصفة خاصة بروح الانتقاد التي لم يكن عادة يجسر على اظهارها احتراما لأساتذته.كان تلميذا نابها وممتازا فاق اقرانه بكيثر، فاق زملاءه الصغار الى حد بعيد اذ تفوق عليهم تفوقا مبهرا، وقد أقر له أحد مشايخه بأنه يرجى منه خير كثير كما يكون له شأن عظيم.ولاغرابة فالشيخ عبد الحميد بن باديس كان ينتمي الى أرومة عربية عريقة، فهو ينتمي الى اسرة قسنطينية قديمة، كان من أعضائها عبر القرون من عرفوا بالمجد وقد كان أجداده المعز المشهور ابن باديس في كامل الأندلس واسبانيا المسلمة التي كانت موجودة في غابر الأزمنة، كانت في روحه ودمه خصال كريمة أهلته مسبقا ليصبح شخصا مميزا في وقت لاحق اصبح يشعر بأن قسنطينة واساتذتها وتعليمها غير كاف لتطوره وتوسيع ثقافته التي كان يستعمل كافة الوسائل لجعلها اوسع نطاقا وأكثر عالمية.ان مطالعته للمؤلفات القديمة التي كان يستهويه البحث عنها في المكتبات العتيقة المغبرة العامة والخاصة بالمدينة حيث فتحت له آفاقا جديدة وكانت نفسه تتألم تجاه جهل الشعب الكبير والشعوذة التي كانت تمارس في كل مكان في ذلك العهد.من أجل هذا قرر الذهاب الى الجامعة الزيتونية بتونس حيث سرعان ما لفت أنظار الجميع وفرض نفسه عليهم بفضل التفوق في الدراسة التي كان مقبلا عليها، وعند رجوعه الى قسنطينة اصبح في أول ظهوره يلفت الانظار اليه.ظهرت آراؤه وخصاله الحميدة، فاصبح موضوع اهتمام وعناية من طرف عدد كبير من العائلات القسنطينية، وقد ظل بعضها متعلقا به الى يومنا هذا، وقد لفت اليه الانظار بطريقة تعليمه الجديدة والصارمة المستندة الى المنطق والاوضاع والتاريخ والوثائق وكان نجاحه في مجال التعليم عظيما الى درجة أنه أجيز له أن يمارسه رسميا في جامع سيدي الأخضر الكبير وواصل القيام بهذا الجهد التعليمي بانتظام ومهارة وصدق وعقيدة لم تخل نفسه منها قط، بل سجلت له فورا مكانته في العالم الاسلامي بكامل شمال افريقيا وحتى الشرق الأوسط.ان آراءه الأصولية، التقليدية المستقيمة الرأي وان لم يظهرها صراحة في أول الأمر، قد جلبت له عدم الثقة وخصوصا الحسد من طرف بعض علماء الدين في ذلك العهد.وكان تاريخ تحديد بداية رمضان ونهايته بالنسبة للعالم الشاب فرصة يقاتل من أجلها بالسيف في نهاية كل سنة تقريبا الأمر الذي كان يحدث ازعاجا كبيرا للبعض وفرصة سانحة للجميع.لقد كان في بداية أمره على وفاق مع كافة جيرانه وكانت له علاقات حسن الجوار مع اهم شيوخ الطريقة وكان دائما ضيفا محبوبا وموضوع ترحيب عندما ينزل عند أمثال الشيخ سيدي عبد الرحمان بن الحملاوي وعند أولاد الشيخ الزواوي وغيرهم ولا زلت حتى الآن أذكر الأمسيات الرائعة التي كنا نقضيها مع الشيخ ابن باديس في سيدي قموش حيث كانت شخصيات أمثال الشيخ مصطفى باش تارزي والقاضي السابق ابن الحاج كحول واخيه الشيخ محمود وامام الجزائر السيد بلونيسي سي علاوة وغيرهم كثيرون ليس بوسعي أن أتذكرهم الآن لأن ذاكرتي قد خانتني في هذا اليوم الحزين.كان جميعهم يأتي ليتبادل أطراف الحديث مع الشيخ حول بعض القضايا الشرعية الاسلامية المختلف من حولها في بعض الأحيان أو عن بعض قضايا التاريخ التي لم يتم توضيحها.لا زلت أتصور الشيخ خلال سهرات شهر رمضان وقد أضناه الصيام في المساء وأرهقته الدروس العديدة التي يقوم بها في النهار لمئات التلاميذ، وهو ممدود على جانبه ورأسه مائل نوعا ما ومستندا الى يده اليمنى.كما لازالت أتصوره وهو يجيب بغموض على الأسئلة البسيطة المطروحة ببلاهة عليه من طرف بعض المزعجين ولكنه ينتصب في الحال كالنمر وعيناه مفتوحتان تماما وهما حادتان تومضان وتتوقدان ذكاء وتشعان اخلاصا مندفعا لاعطاء الاعتبار لنظريته ونظرية الشريعة على حد تعبيره المفضل.لما يرغب بعض العلماء الحاذقين أن يثيروا حفيظة الشيخ ويهيجوا فضوله فما أحلاه وما أجمله من موقف هذا الوقت الذي كانت تنتهي فيه المناقشات دائما، مهما بلغت من التشنج والمكابرة، بأحسن طريقة أخوية حيث كان المنهزمون فيها يتخلصون من هزيمتهم غداة وقوعها بتنظيم الضيافات الكريمة التي كانت فيها لذة المائدة تملأ الدور سرورا وغبطة وحيث كانت العقول ايضا تنال حظا وافيا من المعلومات الجديدة النيرة.ايه لو بقينا معتصمين في حياتنا بمثل هذا الجو المحبب وبهذه الحكمة المثلى التي كانت توصينا بهاهذه الأدمغة الآيلة للزوال امثال سيدي مصطفى باش تارزي وسي علاوة بوشريط وسي محمد أمزيان وسي علاوة بلونيسي والتي لا تزال على قيد الحياة أمثال سي مصطفى بن باديس والد الشيخ المرحوم وسي عبد الرحمان بن بيبي وغيرهم لتجنبنا العديد من الصدامات والمصادمات وكثيرا من حالات سوء التفاهم، ولكن من دواعي الأسف أن مشيئة القدر قد كانت على غير ما كنا نتمناه، فالآراء عندما تتوسع تكون لنفسها مجالاتها الشخصية واشياعها انها قوى تذهب وتشع تتفرق وتنتشر وتتضخم وكثير ما تبلغ درجات وهجوما لم تكن تنتظرها قط وغالبا ما تتجاوز الحدود المعنية مسبقا ونجد أنفسنا حينئذ أمام الهيجان والاضطراب رغم اننا نأمل أن نظل متحكمين في تحركاتنا ومحتفظين فيها بالسيادة والارادة لكننا لا نحصل الا على جزء منها ونكون في الغالب قادرين على الصرف في عنصر واحد من القوى الكثيرة ولاتصبح قوتنا الذاتية الا عنصرا واحدا ومع كونه متفوقا على غيره من العناصر فإنه لا يشكل الا عنصرا واحدا على غرار العناصر الأخرى، وذلك هو ما يحدث في حياة صفوة المجتمع ونخبته والشيخ عبد الحميد بن باديس مثالا ممتازا في هذا المجال وقد كان له من بين أتباعه والمعجبين به رجال أمناء مستقيمون ذوو خبرة وتجربة كان في استطاعته أن يفعل معهم العجب، كان في استطاعته أن يصنع بهم المعجزات، ولكنه لما كان يتحلى به من الطيبة المتناهية وقد كان يجسد هذه الطيبة واللياقة الرائعة وقد كان الرجل الأكثر تهذيبا حيث أنه كان يسارع الى تحية كافة الاشخاص الذين يريدون أن يحيوه حتى مع عامة الناس وأكثرهم حرمانا ومن رغبته في أن لايحرم عواطف اي شخص وقد كان من سمو النفس بحيث يشعر بالندامة ويفكر في أن كلمته التي قالها أو التصرف الذي صدر عنه قد اثار حزنا في نفس اي شخص، لم يكن يرفض بشدة بعض النظريات التي لا يستسيغها وهو ما أتاح لأعدائه -وقد بدا عددهم يتضاعف لأن الانسان كلما كانت مواهبه عديدة كان عدد أعدائه كثيرا، وكان الشيخ ابن باديس ممن حباهم الله بمواهب كثيرة -أن يتهموه ومن ثم فشلت اهانتهم له وابتعادهم عنه ثم تعنت هؤلاء وأولئك في مواصلة ايذائه، من هنا يجدر بنا أن نقدم هذا الثناء للشيخ ابن باديس لأنه كان مستقيما أمينا صريحا في المعركة، انه كان يدعم آراءه الاسلامية السلفية بايمان قوي ورباطة جأش لا مثيل لها وصلابة لا نظير لها في التاريخ ورباطة وثباتا خليقا بروح الأعلام القدماء.إن تدخلات الأصدقاء ونصائح أبيه واخوته وأقاربه التي كانت تقدم له بدافع المحبة وكذلك التهديدات والتخويفات التي كانت تعترض سبيله لم تمنع الشيخ من مواصلة الدعوة الى الكلمة الطيبة ومتابعة القيام بالتعليم والتوجيهات والارشادات الدينية التي كانت تتوسع أكثر فأكثر وقد قيل ان العقيدة تهد الجبال وتصنع المعجزات ولأن الشيخ ابن باديس كان كما هو واضحا متشبعا بالعقيدة الكبرى التي كانت لا تعرف الا الله، هذه العقيدة التي كانت تنشطه وتدعمه بسلاحها والتي كانت تتقد كالشرر في عينيه الكبرتين المتجهتين الى السماء، لقد استطاع خلال 30 سنة أن ينهض بهذه المهمة الشاقة وهذه المعركة المرهقة المضنية التي كانت تتجاوز قواه البدنية، هذه العقيدة هي التي كانت تؤيده وتسانده عبر كافة الفترات المؤلمة من حياته، إنها هي التي كانت تغرس فيه الأمل وتدعم أحلامه وروحانيته العميقة المخلصة اتجاه الأمة الاسلامية العالمية ولا يستطيع أي شخص أن يلومه على تعلقه بمذهبه الديني الذي هو مشغوف بكل اخلاص بغاياته الصافية السوية وبخاصة عندما تكون نابعة من أعماق النفس وصميم الفؤاد وتعبر بكل نزاهة وشرف عن العقيدة، هذه العقيدة الكبرى القديمة التي كان يتحلى بها الحواريون الدعاة والصحابة الأصفياء.قد كان الشيخ ابن باديس في هذا المجال من الحواريين الدعاة ولا زلت أشاهد وجهه "الحلو المسيحي" مفعما بالجلال، هذا الوجه الذي دفع نائبا فرنسيا كبيرا الى الادلاء بالتصريح التالي قائلا:"انه ظهور جديد للمسيح بيننا بعينيه الكبيرتين المائلتين الى الكتاب المقدس وهو في وضعية الانتظار وكأنه يصغى الى بعض الأصوات الداخلية من خلال الزمن والفضاء مع بعض الأرواح في البحث عن الحقيقة والجمال والعدالة".لقد أصبح الشيخ ابن باديس اليوم غير موجود لكن اسمه لم يمت بالنسبة لعائلته وأصدقائه وقد خلد اسما مشهورا بعده وأجمل من العالم أجمع بما فيهم المسلمون والمسيحيون والاسرائليون وقد كون مدرسة وصنع أجيالا من الصفوة المختارين من الدين ومن مذهبه.ومن المؤكد أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي ترأسها بمهارة فائقة ستشعر بخسارته لأنه لا يوجد من يخلفه على رأس هذه الجمعية بمثل سلطته وعقيدته.وبحكم مهنتي تشرفت - وتلك ميزة محزنة - ببذل المعالجات له خلال مرضه الأخير الذي قضى عليه وبدافع حماسته وعقيدته وارادته الحديدية لم يكن يقيم وزنا لجسمه ولم يقبل بالاعتناء به الا بالحاح منى ومن أوليائه وأصدقائه ولم يرض بالتوجه الي ومنحني ثقته لمعالجته الا بعد أن لاحظنا أنه مرهق منذ عهد بعيد وأن مشيه من مكتبه الى الجمعية ثم الى الجامع الأخضر قد أصبح مضنيا له، وقد بذلت ما في وسعي لكسب ثقته وبذل الشفاء له لكن ويا أسفاه فالمرض الذي كان يلتهمه شيئا فشيئا منذ عهد بعيد قد فعل فعله المنتظر، وقد قدمت له مساعداتي الى آخر لحظة من حياته وساعدني في ذلك خلال الساعات المأساوية من حياته صديقاي الدكتور "ليفي فالنسي" الذي هو من عاصمة الجزائر والدكتور هادي الذي هو من سطيف، وكلاهما الآن نقيب طبيب في قسنطينة وأني لأشكرهنا علانية على المساعدة القيمة الأدبية الطيبة التي قدماها لي وللشيخ ابن باديس وعائلته الى آخر لحظة من حياته.احتفظ للشيخ رغم مرضه بصحو عقله، كان يحس بدنو أجله وقرب موته، غير أنه لم يكن خائفا منه وهو بصفته محاربا مجاهدا طيلة حياته ودائم النشاط أراد أن يموت قائما، وقد انطفأ سراجه بحلاوة كالشرارة التي تنطفئ واحتفظ وجهه بصفائه الكامل الذي كان معروفا به من طرف أصدقائه خلال أيامه العذبة الجميلة. أغدق الله عليه شآبيب رحمته وبكل أسى وحزن ستشعر بفقدانه قسنطينة كلها والجزائر بأكملها والعالم الاسلامي. لقد انطفأت شخصية رائعة اسلامية جزائرية ونحن جميعا نبكيه اليوم.باسمي وباسم عائلتي واصهاري، باسم قسنطينة التي أمثلها، باسم لجنة المساكين، باسم رابطة المثقفين المسلمين، باسم اتحاد النواب المسلمين بقسنطينة باسم اتحاد نواب الجزائر ووهران، باسم اتحاد النواب الجزائريين المسلمين، باسم الجزائر المسلمة بأكملها.أنحني بكل أسى وحزن أمام قبر الشيخ ابن باديس المحترم شكرا، لكن أيتها النساء والبنات المسلمات صديقات الشيخ وتلميذاته اللائي أردن مرافقته الى مقامه الأخير شكرا لكم جميعا أيها المسلمون والكاتوليكيون والاسرائيليون الذين قدمتم بحضوركم هنا ولاءكم السامي لشيخنا المحترم، شكرا لكم أيها الحاضرون الذين أتيتم من بعيد للبكاء على هذا القبر الذي هو عزيز علينا جميعا.وداعا أيها الشيخ ابن باديس... وداعا يا حبيب الخير ويا رفيق العلي القدير.والى تلاميذه وأصدقائه وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأقربائه وعائلته، والى أخيه صديقي وصهري ابن باديس سي الزبير مدير ملجأ اليتامى الولائي الأهلي بسيدي مبروك، الى أبيه المسكين سي محمد المصطفى ابن باديس الذي يبدو أن الله قد أخضعه لاجتياز محن قاسية منذ عهد غير قريب.أقدم أحر التهاني باسمي وباسم جميع السكان طالبا منهم أن يعتقدوا أننا جميعا نشاركهم أساهم وحزنهم العظيم.ألقيت هذه الخطبة في مقبرة قسنطينةفي 17 أفريل 1940 ونشرت في جريدة الوفاق L’entente في 09 ماي 1940تعريب الدكتور عبد الله حمادي جامعة قسنطينة

ليست هناك تعليقات: