لماذا تعرضت قسنطينة، وقد كانت زمن العشرية السوداء واحدة من مدن الجزائر الآمنة في عز التململ الأمني الداخلي، لاعتداء إرهابي فاشل في عز التعافي الأمني العام؟، ما علاقة الحزام الناسف الذي كاد ينسف عمارة ومركز أمني بالحيّ العتيق بالتعليمات التي (نسفت) في المدينة نفسها، قبل ثلاثة أيام فقط، محاولة مغرضة لتزييف تاريخ الجزائريين وتلميع الخونة وتقزيم الرجال، ونعني (نسف) تقديم كتاب "سي بوعزيز بن قانة.. آخر ملوك الزيبان" للكاتبة الفرنسية "فريال فوران" الذي ألغت إدارة قصر "أحمد باي" بقسنطينة حفل بيعه بالتوقيع؟.
كيف نقرأ الحادث؟، وكيف نقرأ الرسالة؟، ومن المستهدف؟، قد يبدو السؤال بليدا، ولربما سابق لأوانه، لكنه لا شك يميط اللثام عن تحركات غير بريئة، داخلية أو خارجية، تريد إعطاء الانطباع أن الجزائر، كما الأرض المشاعة، بلد يكثر سرّاقه، سراق التاريخ والذاكرة على وجه التحديد. لقد عادت حفيدة الباشاغا بن قانة إلى باريس خائبة، بل خاوية الوفاض، وكانت تسعى إلى تبييض تاريخ جدها الحافل بعدد الآذان التي قطعها وقدمها لجنرالات فرنسا، نكاية في مقاومة الرجال. تمنت فوران أن يحقق كتابها الإنجاز التاريخي الذي لم يحققه جدها الخائن، وهي في ذلك ليست تختلف عن العاهرة التي تقرر فجأة دق باب الشرف فتصنع لنفسها عذرية جديدة. كان على قسنطينة أن تدفع الثمن، كتاب (مهدور)، أي يريد إباحة شرف الشهداء، مقابل كاميكاز في عمر العشرين يحمل حزاما ناسفا!!.
اللافت أن لا أحد يعلم، على الأقل إعلاميا، من دعا حفيدة الباشاغا بن قانة إلى الجزائر، لتستبيح بيوت الجزائريين وتدخلها دون حياء عبر قناة تلفزيونية حكومية رسمية، فالمنشطة التي حاورت "فريال فوران" شدّدت أنّها ليست من دعا الأخيرة إلى البرنامج الصباحي الذي يخاطب الجزائريين باللغة الفرنسية، ومعنى كلامها أن اختيار الضيف كان من (الأعلى)، ولنا أن نجتهد في معرفة هوية هذا (الأعلى).
من الصعب الردّ بالنفي على السؤال، عندما تتوالى أمام أعيننا أحداثا صار الإعلام ملعبها المفضل، لعل آخرها الأضواء التي سلّطت على قضية جائزة "رجل السلام والحوار، التي يقف وراءها مشبوهون يريدون التغلغل داخل السلطة تحت غطاء الحوار المتوسطي!!"، فالذي وقف وراء جائزة "مؤسسة حوار جنوب-شمال المتوسط" في (عرس) دعي إليه كبار القوم في مؤسسات الدولة الرسمية، هو رئيسها شارل فرديناند نوتومب، وزير الداخلية البلجيكي السابق، الذي ورد اسمه في أكبر فضيحة استغلال الأطفال جنسيا في تاريخ بلجيكا، أو ما يعرف لدى الرأي العام الأوروبي بقضية "دوترو" الشهيرة في تسعينيات القرن الماضي.
أكثر من ذلك، فالوجه الثاني المرتبط بـ "مؤسسة حوار جنوب-شمال المتوسط"، هو "أندريه أزولاي"، مستشار البلاط المغربي، منذ الملك الحسن الثاني إلى محمد السادس. ويعد أزولاي من مؤسسي هذا الفضاء المتوسطي المشبوه وأحد مدرائه السابقين، وهو من مؤسسي "مركز شيمون بيريس للسلام"، وكتب عن مساره كـ"رجل موساد" غريمه الكاتب المغربي اليهودي جاكوب كوهين، الذي يصف أزولاي بأنه واحد من أبرز الشخصيات الصهيونية النافذة التي تستعملها الموساد لنسج علاقات بشكل "بطيء لكن عميق" بين مسؤولين إسرائيليين وسياسيين عربا وحكاما، فضلا عن دوره الخفي في إثارة الفتن في عدد من الدول العربية. هل يحق لنا السؤال مجددا عن موقع المؤسسات الرسمية، مصالح الخارجية والمخابرات، ودورهما الرقابي في معرفة هوية الوافدين والضيوف والهيئات التي ترغب في تكريم القاضي الأول في البلاد؟، هل قامت هذه الجهات بعملها؟، ولماذا وصلنا إلى هذه الدرجة من الاختراق الصهيوني المتخفي تحت عباءة السلام والحوار؟.
المأساة أن أكاديمية المجتمع المدني تعلن في الاحتفالية نفسها، فتح فرع للمؤسسة المشبوهة في الجزائر، في مثل هذا الظرف الأمني الإقليمي المتململ، من سمح لها بذلك؟ وأعضاء الأخيرة مشبوهون ومتابعون؟، ناهيك عن وجود يكاد يكون معدوما لهذه المؤسسة على مستوى الفعالية والإنجازات، ألا يحق لنا السؤال أيضا عمّا قدمته "ياسمنة طاية" رئيسة "الشبكة الجزائرية لحوار جنوب- شمال" التي شاركت "مؤسسة حوار جنوب-شمال المتوسط" منح جائزة " رجل السلام والحوار" ، ماذا قدمت هذه الشبكة لقاطنة الضفة الجنوبية للمتوسط، منذ إطلاق أول مؤتمر للحوار نظمته في الجزائر العام 2006 إلى اليوم؟، لا شيء يذكر، اللهم تنامي مشاعر العداء تجاه المسلمين والعرب (الإسلاموفوبيا) وإصرار الآخر المتوسطي على إقران الإسلام بالإرهاب، وجعله سببا في مآسي الغرب.
ما حدث في قسنطينة، وفي (بلاطو) التلفزيون العمومي الرسمي، وقبلها منتدى الاستثمار الإفريقي وبعدها تصريحات السفير السعودي في الجزائر المفبركة لتسميم العلاقات بين البلدين، والقبول بجائزة، الواقفون وراءها مشبوهون ومتابعون، وعلاقة بعضهم بالصهيونية العالمية واضح وموثق، لا شك يثير القلق، ويشرّع السؤال حول علاقة ما يجري بوضع الجزائر، وهل ثمة مساع لتقديم الجزائر على أنها بلد متوعك برمته، بدءا بجهاز المخابرات، أي تصويره على أنه عاجز، وانتهاء برئاسة تحرير واحدة من أكبر قنوات البلاد التلفزيونية، أي تصويرها على أنها لا تعرف ضيوفها ولا تستفهم من يكونون؟. ثمة من لا يريد الخير في هذا الظرف بالذات للجزائر، ويتربص بها وبمؤسساتها، ويعتقد أن الظرف موات لتحقيق ما تعثر تحقيقه في وقت سابق. الجزائريون يعرفون عدّوهم جيدا، لا الجيران ولا الأصدقاء، إنهم زبانية الأمس، زبانية الباشاغا بن قانة.