الأربعاء، مارس 21

أنا ابن جمعية العلماء المسلمين ولا أؤمن بـ ''الأدب الإسلامي''



الكاتب مرزاق بقطاش لـ ''الجزائر نيوز''
أنا ابن جمعية العلماء المسلمين ولا أؤمن بـ ''الأدب الإسلامي''
لم يقبل وصف (رائد الرواية النظيفة) لأن أحد معاني هذا الوصف - في رأيه - أن هناك روائيين غير نظيفين·· ومع ذلك استطاع دائما -أن يعلن بلا فخر وبلا تأثم - أنه لا توجد كلمة بذيئة واحدة في كل ما كتب وأن الوازع الديني كان من صلب ممارساته الجمالية· واليوم، أكثـر من أي وقت مضى، تتضخم حساسيته ضد (حداثة) شكلية مفتعلة يحلو لها أن تسطو على كنوز التراث من عقلانية الجاحظ والمعتزلة وابن رشد، إلى المعجم الصوفي الغارق في المقامات والأحوال، دون أي اعتراف ودون أي انتماء حقيقي لهذا التراث، لأن على هؤلاء اللصوص الانتهازيون أن يقولوا لنا: هل جاء الجاحظ وابن رشد وابن عربي بفضل الدين الإسلامي أم رغم أنف الدين الإسلامي؟ هل كان الدين الإسلامي فقيرا فأغناه هؤلاء بكتاباتهم العقلانية والصوفية، أم كانوا هم الفقراء فأغناهم الدين بروحه المفتوحة على كل الآفاق· وأسوأ من لصوص التراث هناك لصوص التاريخ الذين نالوا الحظ الأوفر من هجوم مرزاق بقطاش في هذا الحوار··
أجرى الحوار: محمد بسرة
ليس فقط بسبب مساء 31 جويلية 93 (الأمسية التي تلقى فيها الأديب مرزاق بقطاش رصاصة في رأسه) وليس بسبب نبرة جديدة في مقالاتك وتصريحاتك الصحفية الأخيرة، إنما بسبب مجمل أعمالك الأدبية، والروح العام المتجلي في هذه الأعمال يبدو أنك تعيش سلسلة من القطائع؟
إن كنت تعني حاجة المبدع الدائمة إلى تجديد نفسه وتجديد ينابيعه الإبداعية، فالأمر يمكن أن يكون صحيحا· أما إن كان القصد أنني أصبحت غير الشخص الذي كنته دائما، فهذا ليس صحيحا على الإطلاق، لأنني مازلت وفيا وسأبقى وفيا للنهج الذي اختططته لنفسي منذ بداياتي المبكرة في عالم الكتابة الأدبية·
ما أعنيه نزوعا لا يمكن إغفاله في العديد من تصريحاتك للصحف الجزائرية والعربية· نزوع يمكن وصفه ببعض الحذر، بأنه شديد الروحانية، شديد التأكيد على القيم الدينية وعلى الكتابة النظيفة والرواية النظيفة، بالمعنى الأخلاقي لهذه الكلمة·
لا أعتبر هذه نزعة جديدة في كتاباتي بقدر ما هي نزعة متجددة عبّرت عن نفسها منذ بواكير أعمالي، طوال مرحلة الستينيات والسبعينيات وفي ذورة الحمى الاشتراكية الرسمية، المعمّمة، كان يحلو للبعض أن يعتبرني رجعيا· وما ذاك إلا لأن شيئا ما في أبطال قصصي ورواياتي، شيء شديد الوضوح والبروز كان يعبّر عن صلة قوية بالدين وبالقيم الخالدة· وأعتقد أن تلك الشخصيات الروائية كانت تنظر إلى نفسها كحلقة من حلقات التراث العربي الإسلامي في هذا المغرب الأوسط الذي ندعوه الجزائر·
لا شك أنها كانت كذلك، ليس إلى الحد الذي يجعلها مؤشرا على نوع من البحث عن الخلاص عبر الدين على طريقة فرانسوا مورياك وإيليوت وغراهام غرين الذين حرصوا على أن يكون المغزى الديني والمقاييس الروحية واضحة في رواياتهم وأشعارهم المنشغلة بالتنديد بتفقاد الحضارة الغربية الفاجع للقيم والمعنى والهدفية·
جميع هؤلاء الذين ذكرتهم كانوا كاثوليكيين بدرجات متفاوتة من التصلب وبدرجات متفاوتة من الشفافية أيضا· والمهم في هذا السياق أنهم نتاج طبيعي للقطيعة التي شهدتها أوربا مع كل ما هو ديني منذ عصر النهضة والتنوير· لكن الحالة العربية الإسلامية لم تعدم هذه القطيعة الجذرية قط، بل يجب أن نسجل أن الأدب العربي منذ القرن السابع الميلادي - عصر الرسالة النبوية - إلى القرن الرابع عشر، كان أدبا إسلاميا، صميما، ولا يحق لي كما أنني لا أستطيع أن أعتبر نفسي أكثـر تديّنا من المتنبي أو البحتري·
لكننا مع ذلك لا نستطيع أن نصنّف المتنبي والبحتري في خانة الأدب الإسلامي إلا بالمعنى التاريخي، أي أنهما تاريخيا جزء لا يتجزأ من الحضارة الاسلامية، إنما هل كانت رؤياهما إسلامية؟
لا أحرص على تقديم إشارات دينية إلا من خلال ما يفكر فيه أبطال قصصي، كما أنني أرتاب بكل هذه التعريفات المستحدثة عن أدب إسلامي وإيديولوجيا إسلامية·
هل يخشى مرزاق الإيديولوجيا؟
الدين حين يؤدلج يفضي إلى شيء فظيع، وقد رأينا جميعا ما الذي حدث بعد أدلجة الدين، إنني مسلم بشكل طبيعي وأنا ملتزم بالصلاة بشكل تلقائي، وهذا كل شيء·
ألا تعني هذه الصلاة التلقائية أن يتحوّل الدين والحياة الإيمانية إلى وإلى نوع من العادة؟
أنا إبن جمعية العلماء المسلمين، اللغة العربية طبيعية بالنسبة لي وكذلك الدين، الثورة الجزائرية كان محركها الدين وهو الذي ضمن انتصارها من البداية إلى النهاية، وحين أقول البداية فلست أعني 1954 ولا حتى 1830! بل قبل ذلك بزمن طويل· إن الثورة الجزائرية قائمة منذ سقوط غرناطة وخروج المسلمين من الأندلس، وهي لم تتوقف لحظة واحدة خلال الصراع الطويل بين الأساطيل المسيحية والأسطول العثماني على مدى خمسة قرون، إنه لغير وجه الله ولغير وجه الحقيقة يراد لنا أن نفهم أن تاريخ الثورة الجزائرية بدأ في 54 وانتهى في .62 وتبقى تلك الأكذوبة التاريخية الأخرى عن الأمير عبدالقادر كمؤسس لـ (الدولة الجزائرية الحديثة)! لأن هذا آخر ما كان يخطر ببال الأمير عبد القادر الذي كان ''أميرا للمؤمنين''، وهي كلمة تشرح نفسها بنفسها، كان سلوك الأمير سلوك قائد مسلم أقرب إلى العصر العباسي أو الأيوبي، ولم يكن معنيا بمفهوم الدولة الحديثة على النمط القومي الأوروبي·
كان شغله الشاغل تحرير أرض الإسلام عبر بعث الروح الإسلامية ولم تكن (الزمالة) -العاصمة المتنقلة للأمير- إلا مسودة مشروع إسلامي متكامل مهتم بالأخلاق والعلم والروح العسكرية القائمة على بحر من العاطفة الجهادية التي لا تعرف إلا الموت أو الانتصار· وما تلك الأقاويل عن دولة حديثة إلا تعبيرات إيديولوجية يتكلفها البعض تكلفا لأغراض سياسية بحتة·
ليس هناك ما هو أكثـر تناقضا مع حقائق الواقع وحقائق التاريخ من تقديم الثورة الجزائرية للأجيال الجديدة باعتبارها حركة تحرر وطني لا تختلف في شيء عن الثورة الكوبية أو الثورة الفيتنامية أو البلشفية الروسية· إن كلمة ''مجاهد'' هي كلمة لا نظير لها في كل الثورات الأخرى· وليس لهذه الكلمة إلا لُبّ واحد هو اللُبّ الإسلامي المعبّر عن حوافز دينية بحتة كانت وراء كل الانتصارات المحققة وكانت وراء الروح البطولية الصامدة من الجبال وفي السجون وفي أقبية التعذيب· وجميع الذين ساندوا الثورة من الرجال والنساء والأطفال في المدن والأرياف والصحاري، إنما فعلوا ذلك من منطلق جهادي، استشهادي، يتطلع إلى الجنة وإلى إرضاء الله وعزة الإسلام والمسلمين، وما سوى ذلك ليس إلا محاولات بائسة لإفراغ الثورة من مضمونها الحقيقي الذي هو مضمون ديني أولا وأخيرا·
في أحد لقاءاتك الصحفية الأخيرة أعلنت أنك بعد طول عكوف على الواقع والتاريخ، تميل مؤخرا إلى أن تستقي موضوعاتك الروائية من داخل الذات، دون إهمال لإحداثيات الواقع، عن أي (ذات) يجري الحديث هنا، أهي الذات الشخصية أم الذات الحضارية؟
لا فرق بين الخاص والعام في الحياة الإبداعية، ولا سبيل مطلقا إلى سلخ الذات عن محيطها كيفما كانت سمات هذا المحيط، ومثلما أن هناك دائما البارعون في تحويل الانتصارات إلى هزائم، هناك بالمقابل من يبدع في تحويل الهزيمة إلى نصر وأقصد بذلك كل هذا الغليان العالمي، كل هذه الفوضى الكوكبية بما يغلب عليها من محاولات هيمنة وترويض واقتلاع من الجذور، لم تفعل سوى أن أعادت زرعنا داخل جلودنا، وبدلا من أخذنا بعيدا عن ذاتنا الأصيلة أتاحت لنا فرصة إعادة اكتشاف هذه الذات، يؤلمني كثيرا ما يحدث في العالم العربي الذي يبدو وكأنه لم يتبين طريقه بعد شخصيا، كنت أتصور في فترة ما بعد الاستقلال أن مثل هذا البحث قد انتهى وأننا بدأنا السير قدما على الطريق السريع، لكن التجارب السياسية المتعاقبة أثبتت لي أننا لسنا فقط لا نعرف على أي قدم نرقص، بل أننا نزداد ابتعادا عن أنفسنا نحو المزيد من الانفصام والتميع الحضاري والسياسي، وهذا ما أجدني الآن معنيا به أكثـر من سواه: إعادة التعرّف على ذاتي وجذوري، وتتبع مجرى النهر الكبير حتى لحظة الوصول إلى الينابيع الأصلية·
تقول دائما، إنك تعلّمت اللغة العربية في الزمن الصعب حين لم يكن لها مستقبل إلا القراءة على أرواح الموتى، هل خرجنا من الزمن الصعب للغة العربية أم أنه يزداد صعوبة؟
شخصيا، لطالما افترضت أن العالم العربي بأجمعه سيدخل في وحدة عضوية اندماجية بعد استقلاله مباشرة· صدقني! وقد كانت القاهرة والمشرق عموما قبلة أولى وأخيرة· لكن الهزائم العربية السياسية والعسكرية 67 - 73 وما بعدها انعكست علينا سلبا وعلى وضع اللغة العربية، لأن امتلاك اللغة العربية امتلاكا معرفيا وجماليا يجب أن يسبقه ويتزامن معه استعادة الروح العربية نفسها، لكن هذه الروح مهزومة، متراجعة ومنكمشة وهذا ما يفسر هزيمة اللغة وتراجعها· في السابق كنت أتمزق حسرة ومرارة لأن اللغة العربية توصلني إلى المطار فقط، وتبقى هناك لا تذهب معي إلى الخارج، لأنه ليس لنا تأثير حضاري حقيقي في الخارج· أما اليوم حتى في المطار وما قبل المطار لا أرى اللغة العربية·· ولك أن تتصور حجم الفجيعة والمرارة، إنني في الوقت الذي أفتح فيه قلبي للعالم كله، منفتحا على كل الثقافات والآداب واللغات، أراني أضع يدي على قلبي خوفا على الأجيال الجديدة التي تعرف ''الآخر'' أكثـر مما تعرف نفسها· وإذا كان الطالب الجامعي الجزائري لا يعرف ولا يهتم بأن يعرف معنى (غاسق إذا وقب) فكيف سيكون حال الأجيال القادمة مع سورة البقرة والأنفال؟!

ليست هناك تعليقات: