حي "بالسيف" / قسنطينةهل أتاك حديث الذين دفنوا أحياء؟
أعترف في البداية، بأننّي وجدت صعوبة كبيرة في دخول حي "بالسيف" سابقا، بقسنطينة الذي أصبح حي السلام منذ 1990. الصعوبة تكمن، بأن هذا التجمّع السكاني الذي يظل وصمة عار على جبين قسنطينة، يمكن أن يكون أي شيء إلا حيّا للسكن، في جزائر تتباهى وتتفاخر بنموّها وتطورها وباحتياطاتها المالية ومظاهر الرخاء المتفشية من سيارات التوارق الى المرسيدس والهامير!-كل متاعب العيش ونكد الحياة والفقر، والتهميش مجسّدة في هذا الحي. وكل مظاهر غياب المسؤولين والمنتخبين بارزة للعيان دون اللجوء الى شهود أو أذّلة اثبات. وعليه فكل شيء أولوية في هذا الحي الذي قاطعته مصالح النظافة واكتفت بزيارته مرة أو مرتين طوال سنوات فتحول الى ما يشبه المزبلة المفتوحة، بما تخلّفه من روائح كريهة وأعراض صحية مختلفة فتساوى البشر والأطفال مع الجرذان والحشرات والفئران والثعابين نتيجة ظلم الانسان والمسؤولين الذين لم يغيّروا شيئا في الحي. بل قد تصبح تهمة، لأنهم لم يقدّموا "اسعافات" لسكان في خطر.انقلبوا على وعودهم بعد الفوز!تعاقب الولاة على قسنطينة وذهبوا، ولم يغيّروا الوضع. ووعد رؤساء دوائر الولاية بانهاء المعاناة، ثم نقلوا الى دوائر أخرى في ولايات أخرى وأخلفوا الوعد. وكذلك فعلت المجالس البلدية المتعاقبة، على اختلاف ألوانها السياسية. وعدت في حملاتها الانتخابية لدى تقرّبها من الناخبين بأن اخراج سكان الحي من القصدير والكرطون، والترنيت والمزابل والأمراض المختلفة... سيكون أولوية حين يفوزون في الانتخابات. لكنّهم لم يعودوا بعد الفوز. فينقلبون على وعودهم وعلى ماوعدوا به، الى غاية انتهاء عهدتهم الانتخابية. يتساوى في ذلك -حسب تصريحات السكان- الاسلاميون والافالانيون والديمقراطيون وكل الذين وعدوا ثم أخلفوا.إنّي أروي مأساة 700 عائلة، تعيش خارج الوقت وخارج أبسط ضروريات الحياة الكريمة للانسان. النصر، فضلت ان تكون في روبورتاجها هذا، شاهد حقّ، ووسيطًا أمينا بين الذين بيدهم الحلّ على أن يغيّروا الوضع وينهون المأساة، وعائلات تشقى وتصرّح للنصر، بأنها لاتجد فرقا بينها وبين الأموات، مع أفضلية لهؤلاء بأنهم دفنوا أمواتا، أما سكان حي السلام فهم مدفنون أحياء(!) كما يقولون.الحيّ جنح من "السيف" إلى .. السلامحي السلام، هكذا أصبح منذ 1990. ورغم تغيير الاسم والهوية، إلى أن سكان قسنطينة يصرّون أثناء الحديث أو الذكر على تسميته القديمة؟ "حي بالسيف"، بكل ما تحمله الكلمة من أبعاد ودلالات، على أن من جاؤوا في البداية الى المكان بنوا أكواخهم وحيطانهم، دون اذن، أو ترخيص أي تحصيص أو رخصة بناء. الأكواخ الأولى نبتت على الخصوص بين عامي 1989 و 1990، مع بداية سنوات الفوضى والجنون وانهيار الدولة. أزمة سكن حادة. وبطالة خانقة والمجتمع برمته بدل أن يبحث عن حلول لانشغالاته ومطالبه واحتياطاته اليومية غرق في السياسة وجنح الى التعصّب، فاستغلت معاناة البسطاء والفقراء والمستضعفين كأوراق سياسية. واستثمرت جبهة الانقاذ على الخصوص والافالان في هذه المعاناة، بشكل شعبوي، ينصّب في مراميه وأهدافه الى كسب أصوات الناخبين ولو بالصمت عمّا يفعلون. سكان الحي، الذين بنوا أول الأكواخ، يقولون بأنهم كانوا مجبرين ومكرهين على ايجاد مأوى لأطفالهم وعائلاتهم. ومن يبني كوخا ويرضى بالسكن على ضفاف الأودية وبين أكوام الردوم والمزابل والحشرات، بالتأكيد ليس اختيارا، ولايملك بديلا أفضل.دخلنا عصرا إلى حي القصديردخلنا الحي عصرا، استجابة لنداء مجموعة من سكان الحي الذين طلبوا منا نقل انشغالاتهم ومأساتهم المتفاقمة، علّ الذين بيدهم الحّل يستجيبون ولو في اطار تعهدات رئيس الجمهورية بالقضاء على الأكواخ القصديرية والأحياء التي تعكـّر صفو الحياة ولا توفر العيش الكريم.دخلنا حي السلام من باب تحديد عدد السكان. ولم نكن نعلم بأننا سنتيه في لغة الأرقام. يقولون 400 ساكن أو كوخ. ويقول آخرون 500 ويعطي آخرون أرقاما متفاوتة 700 إلى 1200 ساكن. تضارب في الأرقام على المكشوف بين سكان الحي أنفسهم. وحتى ما تبقى من أفراد جمعية الحي التي تأسست عام 1990، والتي أطلقت اسم السلام على حيّها، رفعا لتهمة "السيف" التي سلطت على السكان جميعا، وصنفتهم في خانة ولون سياسي معيّن، مع أنهم، كما يقولون، ينتمون إلى المجتمع الجزائري باختلافاته، وتجمعهم محنة واحدة هي أزمة السكن. كل الأحزاب وعدت وأخلفت. لذلك هم يستنجدون بوالي قسنطينة شخصيا لاسكانهم. قلت بعض من تبقى من أعضاء جمعية الحي، يعطون رقما دقيقا قامت به مصالح مديرية السكن و العمران عام 1992، والذي كان بمثانة احصاء فعلي (توزيع بطاقات مرقمة على سكان تلك الفترة) وهو 460 ساكنا مع قائمة بـ 10 سكان اضافيين ليرتفع العدد الاجمالي الى 470 ساكنا. لكن منذ ذلك الاحصاء، ارتفع عدد سكان الحي ليلا ونهارا، نتيجة النزوح الناجم عن سنوات الجنون والفوضى، وبفعل التوسّع العائلي داخل الأسرة الواحدة (الزواج)، وحتى بفعل السمسرة واستغلال الظروف.وعليه يعتقد من تحدثوا إلينا بأن عدد سكان الحيّ حاليا لا يبتعد كثيرا عن 700 ساكنا.قدوم النصر أخرج كل السكان.. والمعاناةدخول النصر إلى الحيّ، لاجراء هذا الروبورتاج، تحوّل إلى حدث أخرج السكان فيما يشبه المسيرة الشعبية، التي رافقت مندوب النصر والمصوّر الصحفي طوال المعاينة والتحقيق. "تجمع شعبي" لم يخل من "زعاف" البعض وانتقاداته وحتى بغسل اليدين مما"ا تنشره الصحافة الوطنية، على أن لا شيء سيتغيّر. فيما راح عقلاء الحي، يهدئون الغاضبين، ويشكرون النصر، آملين أن تكون فأل خير عليهم، في نقل معاناتهم إلى المسؤولين بما في ذلك رئيس الجمهورية ووزير السكن ووالي قسنطينة. فلقد سبق أن قامت النصر بتحقيق مماثل عن حي "نيويورك" واستجابت السلطات باسكان المحرومين والقضاء على ذلك الحي القصديري. مطالب السكان متشعبّة، وأحيانا متنافرة ومتضـّادة الى حدّ الاختلاف، فكل متدخل له أولوياته، أو ما يراه أولوية، حتى وان كان الجميع على قناعة بأن الحل الجذري هو اسكان الجميع والقضاء على هذا الحي القصديري الذي يبقى شاهدا على معاناة جزائريين يحبّون وطنهم ووقفوا أيام ثورة التحرير وأيام الأزمة الأمنية من أجل حرية الوطن والمواطن وبقاء الدولة واقفة. لكن حريتهم اليوم منقوصة بفعل جحيم القصدير و"حقرة" الذين أخلفوا وعودهم، مع أن الحق في السكن الكريم، حق دستوري."الزيقوات" تجري حتى داخل البيوت! التنقل داخل الحيّ، يبعث فعلا على المرارة والغضب : المزابل في كل مكان "الزيقوات" تجري حتى داخل البيوت. برك المياه الراكدة في كل مكان. حرارة الترنيت المسلطة على رؤوس الكبار والأطفال والرضع، تذيب "المخ" وتصدع الجبين. الروائح الكريهة المنبعثة من الوادي والمزابل والقاذورات وبرك مياه صرف المياه، تبعث على القلق، وتعكر صفو حي السلام. ناهيك عن زحف الثعابين وانتشار الحشرات السامة والناموس، وخطر الفئران والجرذان... أجواء تذكرك ببؤساء فيكتور هيجو!.السكان وحدهم واقفون..ويقاومونرغم كثرة الوعود وتكررها، سيما في المواسم الانتخابية، فإن معاناة سكان حي السلام، متواصلة. جحيم يومي، في انتظار غد أفضل.السكان عن طريق "التويزة" وحدهم قاموا بإدخال الماء عام 1994، حيث دفع كل ساكن ما بين 4000 و8000 دج. ثم أدخلوا الكهرباء بدفع مليون سنتيم (كل ساكن) عامي 1992 و2000.وهم الذين يقومون بحملات النظافة، وإصلاح القناة الرئيسية للماء. وهم الذين يتصدون للأعطاب الكثيرة لقنوات صرف المياه.ووحدهم يجابهون فيضانات وانزلاقات أمطار الشتاء وثلوجه. ووحدهم يقاومون ليل نهار. ووحدهم يموتون في صمت!.كيف ترون الحل؟عرضنا السؤال على من تجمع حولنا، وكانت الإجابات مختلفة. ولكن الإجابة الأقرب إلى الموضوعية التي علقت بذهننا هي موقف ما تبقى من أعضاء جمعية السلام، (أقول ما تبقى، لأن الجمعية حلت)، والمتمثل في تصنيف ثلاثة حلول:1- حلول استعجالية:* تتعلق بما بين 100 و200 ساكنا، يعيشون رعب الوادي. فيضاناته وأخطاره. فلقد جرف عام 2000 فتاتين (3 و4 سنوات). وسكان "الضفة" يحملون قلوبهم في أيديهم كل شتاء أوفي مواسم رعود آواخر الصيف وفي فصل الخريف والشتاء.* مطالبة بلدية حي التوت ومصالح النظافة القيام بحملة تنظيف واسعة لإخراج الحي من ردوم المزابل والقاذورات المتراكمة في كل مكان، قبل قدوم الشتاء. إضافة إلى حملة التطهير ضد الناموس والحشرات السامة...إلخ.* مطالبة مديرية الصحة، بإرسال بعثة صحية لرصد ومعاينة مختلف الأعراض الناجمة عن وضعية الحي كتفاقم الحساسية والربو...2-حلول جذرية:الحل الجذري حسب غالبية السكان، هو القضاء على هذا الحي القصديري بإسكان كل الذين تتوفر فيهم الشروط القانونية للسكن، ويعانون فعلا من أزمة السكن والحرمان.لكن البعض، ممن تحدثوا إلينا، يعرضون صيغا أخرى للإسكان منها أن بعض سكان الحي، تمكنوا من بناء سكناتهم بشكل مقبول أو لائق، والبعض الآخر، يريد تمليكه قطعة الأرض، المتواجد عليها، ليقوم ببناء منزله بنفسه...إلخ.وهي عروض وحلول يقدمها سكان حي السلام للسلطات المحلية لتسهيل مهمة التخلص من الترنيت والكرطون والألواح والطين...ونحن نغادر الحي، وقفنا عند شيخ طاعن في السن أمام كوخه، حيانا وتنهد ثم قال:"اللي بعيد عن العين، بعيد عن القلب"، ثم دخل كوخه ولم يعد! قد تكون حوصلته لمعاناته في هذا الحي منذ نهاية الثمانينات كما علمنا بعد ذلك، وعليه فإن النصر وإذ نقلت تفاصيل واقعية من الحياة في حي فقد "السيف" وجنح إلى السلام، فإنها تسعى إلى أن تكون شاهد حق في نقل معاناة جزائريين يحلمون بغد أفضل، ويتوقون إلى تغيير واقعهم اليومي بتغيير ظروفهم السكنية الصعبة.التوق إلى تغيير تحمله كل الخطابات الرسمية.
ع/ونوغي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق