الاثنين، يناير 1

قال

نعود هذه المرة إلى عائلة زڤار التي يلعب فيها مسعود دور الأب المتكفّل بكل شيء، فحسب ابن أخته وكل أفراد العائلة الذين التقيناهم بالعلمة وبالجزائر العاصمة فإن أي قرار لا يتخذ إلا بمشورة الأخ الأكبر الذي يتولى أمر إخوته وخاصة البنات الست اللواتي كان يحبهن حبا شديدا، وكل العائلة فخورة بهذا الأخ الذي يعتبر رمزا يستحق كل التقدير والاحترام. فكل الأخوات يشهدن له بطيبة القلب وعطفه عليهن والجميع طبعا استفاد من قدرات وممتلكات مسعود الذي فضّل أن يتابع بنفسه التكوين المدرسي لأخواته، فيقوم بنقلهن إلى سويسرا أين كن يتعلمن في مدارس خاصة مع توفير كل الظروف المادية والمعنوية. وحسب أخواته، فقد كان يخشى عليهن من التأثر بالحضارة الغربية ويحرص دوما على احتفاظهن بقيمهن الدينية والعربية، ولذلك خصّص لهن أستاذا يدرّسهن اللغة العربية والتربية الإسلامية وكان يمنعهن من حضور الدروس المتعلقة بالمعتقدات المسيحية، كما كان يشترط على إدارة المدرسة بأن لا تقدّم لحم الخنزير لإخوته عند تناولهن وجبات الطعام. وعند عودتهن إلى الجزائر ظل دوما هو المتولي لأمرهن في كل شيء إلى أن زوّجهن جميعا، أقول جميعا إلا واحدة وهي دليلة البنت المدلّلة التي كانت تحظى بعناية‮ ‬خاصة‮ ‬من‮ ‬طرف‮ ‬مسعود‮ ‬كونها‮ ‬آخر‮ ‬حبة‮ ‬في‮ ‬العنقود‮. ‬ نحن الآن في سنة 1975، دليلة لا زالت طالبة بجامعة الجزائر وخلال دراستها تتعرّف على شاب يدعى " دونيس ماشينو" فرنسي الجنسية ومسيحي الديانة كان زميلها في الدراسة لكن هذه الزمالة تتطوّر إلى علاقة عاطفية، ومع مرور الوقت يعلن الإثنان عن نيتهما في الزواج، وطبعا هذه الفكرة يستحيل أن يقبلها المجاهد زڤار ليس فقط لأن المتقدم " ڤاوري" وأخته مسلمة، بل لأنه أيضا فرنسي والمعلوم أن الفرنسيين يكنّون عداءا خاصا لمسعود، وبالتالي لم يستبعد أن تكون العملية مدبّرة من طرف المخابرات الفرنسية والهدف منها التجسّس عليه وعلى صديقه الرئيس بومدين، ولذلك كان رد مسعود بالرفض القطعي الذي لا يحتمل النقاش. ورغم ذلك ظلّت دليلة متمسّكة بالفرنسي وراحت تخطّط معه لبلوغ هدفهما وأحسن طريقة في نظرهما هي الخروج من الجزائر والذهاب إلى الخارج بعبارة أخرى الهروب من مسعود، لكن أول عائق يصطدم مع هذه الفكرة هو استحالة السفر دون ترخيص الولي، ولذلك اهتدت البنت إلى فكرة السفر إلى الخارج برضى مسعود، كيف ذلك؟ دليلة تستعين بصديقة لها تعمل بالمستشفى فتمكّنها من الحصول على شهادات طبية وراديو تدّعي من خلاله بأنها مصابة بسرطان الثدي، وفور عرضها الملف على مسعود يقدمه بدوره إلى طبيب مختص فيؤكد له الإصابة وفق ما هو موجود في الملف، ودون تردّد يأمر مسعود أخته لتحضّر نفسها للسفر إلى سويسرا وفي أقل من نصف ساعة كل شيء كان جاهزا بما فيها ترخيص الولي وتذكرة الطائرة وحتى الغرفة حجزت بمستشفى مختص بجنيف. على‮ ‬الطريقة‮ ‬الهوليودية: زڤار‮ ‬يوظّف‮ ‬رجال‮ ‬مباحث‮ ‬أمريكان‮ ‬للبحث‮ ‬عن‮ ‬أخته سافرت دليلة إذن ويلتحق بها ماشينو وبعد يومين فقط يتوجه الاثنان إلى باريس أين يعقدان القران بطريقة قانونية لكن دون علم أحد. وعندما يجري مسعود اتصالاته للاطمئنان على أخته تخبره إدارة المستشفى بأنها لم تستبقل أي مريض بالاسم الذي قدّمه، وهنا تبدأ حيرة العائلة ويتنقل مسعود إلى سويسرا بحثا عن أخته فلا يعثر لها على أثر، ولم يكتشف الحقيقة إلا بعد مرور عدة أسابيع، حيث تبيّن بأن العروسين الجديدين قد سافرا من باريس إلى كندا وهو ما جعل مسعود ينتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية أين كلّف اثنين من رجال المباحث الخاصة بمهمة العثور على دليلة في أقرب وقت، لكن الوصول إلى الهدف لم يتم إلا بعد مرور حوالي 10 أشهر، وفي كل الأحوال تمكّن زڤار من معرفة مكان دليلة فظل يراقب تحركاتها بدقة وبكل تريّث، ثم يشرع في تنفيذ خطته وكانت البداية بكراء فيلا بالقرب من الشقة التي كانت تسكنها مع زوجها ماشينو وبعدها يستدعي مسعود ابنه الذي يتابع دراسته بالولايات المتحدة الأمريكية ويأمره بأن يتصل بدليلة ويتظاهر بأنه التقى بها صدفة باحد شوارع مونتريال، فيطمئنها ويؤكّد لها بأن مسعود لم يعثر لها على أثر، وأما النقطة الثانية من الخطة فتتمثل في استدعاء كل أفراد العائلة ويتعلّق الأمر بأبناء مسعود وأمه وباقي إخوته رفقة أزواجهن وأبنائهن والجميع مدعو إلى الإقامة لعدة أيام في فندق فخم بمونتريال، وبعدها يتّصل ابن مسعود بدليلة ويدعوها إلى زيارة أمها وأخواتها فتلبّي الدعوة بعد أن ضمنت بأنها لن تلتقي مسعود. وعند الالتقاء‮ ‬بالعائلة‮ ‬تقوم‮ ‬إحدى‮ ‬أخواتها‮ ‬بإعطائها‮ ‬كوبا‮ ‬من‮ "‬التيزانة‮" ‬به‮ ‬دواء‮ ‬مخدر‮ ‬فتفقد‮ ‬دليلة‮ ‬الوعي‮ ‬وهنا‮ ‬يبدأ‮ ‬الشطر‮ ‬الثاني‮ ‬من‮ ‬الخطة‮.‬ طائرة‮ ‬خاصة‮ ‬مزودة‮ ‬بخزانين‮ ‬لتنفيذ‮ ‬الخطة مسعود يعطي الأمر لتحضير طائرته الخاصة (من نوع D C 8 تابعة لشركة الطيران التي يملكها زڤار) ثم يأمر العائلة بالتنقل إلى المطار بعد أن يتم حمل دليلة (الفاقدة للوعي) على متن كرسي متحرك. الجميع إذن مستعد للسفر، والمدهش هنا أن مسعود كان مصرا على أن تكون الرحلة من‮ ‬مونتريال‮ ‬إلى‮ ‬الجزائر‮ ‬مباشرة‮ ‬دون‮ ‬الحاجة‮ ‬إلى‮ ‬النزول‮ ‬في‮ ‬أي‮ ‬بلد‮ ‬آخر‮ ‬للتزود‮ ‬بالوقود،‮ ‬ولهذا‮ ‬الغرض‮ ‬قام‮ ‬بتزويد‮ ‬الطائرة‮ ‬بخزان‮ ‬إضافي‮. ‬ وبعد عدة ساعات من الطيران تحط الطائرة بسلام بمطار الدار البيضاء بالجزائر العاصمة، ومنه كانت الوجهة مباشرة إلى مدينة العلمة، وبالضبط إلى إقامة مسعود التي تعرف حاليا باسم قصر زڤار، ورغم طول الرحلة إلا أن دليلة لازالت في غيبوبتها، وعندما استيقظت كانت دهشتها كبيرة‮ ‬لما‮ ‬وجدت‮ ‬نفسها‮ ‬بمدينة‮ ‬العلمة‮. ‬ هل انتهت القصة؟ الأمر ليس كذلك، خاصة بالنسبة للفرنسي ماشينو الذي يفقد زوجته فيبحث عنها في كل مكان، لكنه سرعان ما ترتابه شكوك ويبدأ يشم رائحة مسعود، ولذلك يقرر رفع شكوى لدى الشرطة الكندية مع توكيل محامي يتكفل بالقضية، وفي الوقت الذي انطلقت التحريات تحاول دليلة غلق الملف بإرسال رسالة إلى محامي ماشينو تخبره فيها بأنها غادرت كندا بمحض إرادتها، لكن هذه الوثيقة لم يكن لها أي تأثير على مسار القضية، حيث شكك المحامي في صحتها ولم يكن محتواها مقنعا في نظره، وعليه فإن التحقيق يبقى متواصلا، وبعد حوالي شهر الشرطة الكندية‮ ‬تتوصل‮ ‬إلى‮ ‬نتيجة‮ ‬واحدة‮ ‬لا‮ ‬ثاني‮ ‬لها‮: ‬السيدة‮ ‬ماشينو‮ ‬اختطفت‮ ‬من‮ ‬طرف‮ ‬أخيها‮ ‬مسعود‮ ‬زڤار‮ ‬وأرغمت‮ ‬على‮ ‬مغادرة‮ ‬كندا‮.‬ بومدين‮ ‬في‮ ‬قلب‮ ‬العاصفة‮ ‬ وهنا انفجرت القضية وأخذت أبعادا لم يتوقعها أحد، وكانت البداية بالصحافة الكندية التي نشرت الخبر لتستغله فيما بعد الصحافة الفرنسية التي ملأت الدنيا صخبا، فتحدثت بإسهاب عن هذه القضية ولم تدخر أي عبارة انتقاد إلا ووظفتها ضد زڤار، ونفس الشيء نشرته الصحف العالمية بما فيها جريدة "لوموند" وكتب عنها الصحفي الشهير بول بالطا، وهنا نأخذ فاصلا ونقتطف فقرة مما نشره محيي الدين عميمور ذات مرة حيث يلمح للقضية ويقول: (... ويتعرض رشيد "أي مسعود زڤار" لأزمة عائلية شخصية لا أرى داعيا للتوقف عندها وتمكنت من إيقاف كل خبر عنها في الصحافة الجزائرية وفي "لوموند" انجيل الطبقة الحاكمة ووعدت "بول بالطا" بأن المعني سيتصل به مباشرة لتوضيح الأمر، ولم يحدث ذلك رغم أنني طلبته منه مباشرة، فنشر الخبر بالطبع، ولكن بعد أسبوع من قضية الطائرة. وهناك بدا لي أن الفتور ترك مكانه لنوع من العداء لم أعرف السبب الحقيقي له إلا بعد ذلك بسنوات عندما عرفت أن رفيقا قال لرشيد إنني أنا الذي سربت أنباء الفضيحة لصحيفة "لوموند" وهو افتراء، لأن مصدر الصحيفة كان كنديا" انتهى كلام عميمور وانتهى الفاصل. حملة‮ ‬فرنسية‮ ‬ضد‮ ‬الزعيم تحركات‮ ‬دبلوماسية‮ ‬ومظاهرات‮ ‬في‮ ‬الشوارع‮ ‬الكندية‮ ‬والأوروبية ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ ظلت الأمور في تفاقم مستمر، حيث وهذه المرة يتحرك الشارع الكندي والأوروبي فتقوم العديد من الجمعيات والمنظمات النسوية بتنظيم مظاهرات في كندا وفي أكثر من دولة أوروبية يتم من خلالها التنديد بعملية الاختطاف والتعبير عن التضامن الكبير‮ ‬مع‮ ‬ماشينو‮. ‬ وحسب محدثنا جيلاني صغير (أمين سر زڤار) الأمور إنفلتت كالسيل، ولم يكن أحد يتوقع أن تصل إلى هذا الحد، حيث بدأت الضغوطات تتهاطل على الجزائر، وبتاريخ 28 جوان 1978 يتلقى الرئيس هواري بومدين رسالة من شخصيات فرنسية من بينها ليونيل جوسبان وجون بول سارتر ينددون فيها‮ ‬بعملية‮ ‬الاختطاف‮ ‬ويطلبون‮ ‬من‮ ‬بومدين‮ ‬أن‮ ‬يتدخل‮ ‬على‮ ‬الفور‮ ‬للضغط‮ ‬على‮ ‬زڤار‮ ‬حتى‮ ‬يسمح‮ ‬لدليلة‮ ‬بالعودة‮ ‬إلى‮ ‬زوجها‮ ‬ماشينو‮.‬ وأما فيما يخص السلطات الكندية فرد الفعل الرسمي جاء من طرف الوزير الأول الذي يحتج علنيا على حادثة الاختطاف للسيدة ماشينو، ومن جهته سفير كندا بالجزائر يتصل بوزارة الخارجية الجزائرية ويطالب بضرورة اتخاذ الإجراءات الضرورية حتى تتمكن السيدة ماشينو من الالتحاق بزوجها. كندا تواصل دوما مساعيها الدبلوماسية، وهذه المرة نائب كاتب الدولة المكلف بالعلاقات الخارجية يزور الجزائر ويستقبل من طرف وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة الذي يجيب ضيفه بلغة المسؤول ويقول له بأن هذه القضية عائلية والدولة الجزائرية لا تتدخل فيها، ويؤكد له بأن السلطات الجزائرية لا تمانع على تنقل دليلة إلى كندا للإعلان عن موقفها أو على الأقل يتم تنصيب لجنة تحقق مع دليلة وتستمع لرأيها مباشرة. وبعد هذا التصريح دليلة تلتقي بموظف كندي بالجزائر العاصمة وتؤكد له بأنها لا ترغب في العودة إلى كندا وتفضل البقاء في‮ ‬بلدها‮ ‬الجزائر‮. ‬ القضية تهدأ بعض الوقت، لكنها تشتعل من جديد بعدما تتلقى السلطات الكندية رسالة ممضية من طرف دليلة تقول فيها بأنها أرغمت على البقاء بالجزائر، وبأنها ترغب في العودة إلى زوجها بكندا، الرسالة تنشر من طرف الصحافة الكندية، وينفجر الوضع مرة أخرى، وتعود المظاهرات إلى الشارع، وتستأنف الصحافة الفرنسية حملتها ضد زڤار وحينها تقوم دليلة بنشر تكذيب تتبرأ فيه من الرسالة التي يتبين بأنها مزورة وليس لها أي أساس من الصحة، ولحد الساعة ظلت الجهة التي بعثت بهذه الرسالة مجهولة. نحن الآن في شهر أوت من سنة 1978 العاصفة هدأت، وبعد الاستقرار التام تسافر دليلة إلى كندا وتعود إلى زوجها ماشينو لكنها تعيش معه لبضعة أشهر فقط ويحدث الطلاق بينهما بالتراضي فتغادر دليلة مونتريال وتعود إلى الجزائر، وهذه المرة دون إحداث أي ضجة، فتتزوج الأخت من رجل‮ ‬جزائري‮ ‬وتستقر‮ ‬بالجزائر‮ ‬العاصمة‮ ‬التي‮ ‬لازالت‮ ‬تعيش‮ ‬بها‮ ‬الى‮ ‬يومنا‮ ‬هذا‮.‬ ويؤكد لنا أفراد العائلة الذين التقيناهم بأن هذه الحادثة لو وقعت لشخص آخر لانهار من الساعات الأولى، لكن مسعود ظل صامدا ولم يتزعزع وكان قانعا من أن تصرفه هذا ينبع من تركيبة الشخصية الجزائرية المسلمة التي تتميز بالنخوة والأصالة والشرف، فلم يهضم أن تتزوج أخته برجل مسيحي، لأن الشريعة الإسلامية تحرم ذلك، وحتى العرف الجزائري كان يستنكر الزواج بما يسميه بـ "الڤاوري" وهو الأمر الذي تفهمه أصدقاء مسعود وكل السياسيين الجزائريين بمن فيها الرئيس الراحل هواري بومدين ووزير الخارجية آنذاك السيد عبد العزيز بوتفليقة الذي لازالت‮ ‬عائلته‮ ‬تربطها‮ ‬إلى‮ ‬يومنا‮ ‬هذا‮ ‬علاقة‮ ‬صداقة‮ ‬ومحبة‮ ‬مع‮ ‬عائلة‮ ‬زڤار‮.‬ من جهة أخرى، فإن مسعود كيّف القضية على أساس أنها مؤامرة مدبرة ضده من طرف الفرنسيين، فلم يكن يتوقع من هذا الزوج الفرنسي سوى عمل واحد هوالتجسس عليه الذي يعني في نفس الوقت التجسس على بومدين، وهذا تحليل منطقي، لأن فرنسا كانت تكن عداءً كبيرا لزڤار الذي ضيع لها مصالح‮ ‬كبرى‮ ‬في‮ ‬الجزائر‮ ‬وفي‮ ‬مقدمتها‮ ‬المحروقات‮ ‬المؤممة‮ ‬سنة‮ ‬1971،‮ ‬وهو‮ ‬ما‮ ‬يفسر‮ ‬أيضا‮ ‬التهويل‮ ‬الإعلامي‮ ‬الفرنسي‮ ‬والعالمي‮ ‬لقضية‮ ‬أخته‮ ‬التي‮ ‬انفجرت‮ ‬بتحريض‮ ‬من‮ ‬مصالح‮ ‬المخابرات‮ ‬الفرنسية‮.‬ وأما فيما يخص الرئيس الراحل هواري بومدين فقد كان لهذه الحادثة أثرها البليغ على شخصه كمسؤول أول عن الدولة، خاصة بعد الضغوطات السياسية والإعلامية التي استهدفته والتي صمد أمامها وكان حكيما في التصرف ورفض تسليم زڤار للعدالة الكندية، حيث تفهم التحرك الذي قام به‮ ‬مسعود‮ ‬حتى‮ ‬وإن‮ ‬كان‮ ‬في‮ ‬نظر‮ ‬الغرب‮ ‬اعتداء‮ ‬على‮ ‬حقوق‮ ‬المرأة‮. ‬ويكفي‮ ‬أن‮ ‬يكون‮ ‬الواحد‮ ‬جزائريا‮ ‬ليتفهم‮ ‬هذا‮ ‬التصرف‮ ‬النابع‮ ‬من‮ ‬أصالة‮ ‬العقلية‮ ‬الجزائرية‮ ‬الحريصة‮ ‬على‮ ‬جذورها‮ ‬الدينية‮ ‬والعرفية‮.‬ لازلنا في صيف 1978 المرض بدأ يفتك بجسم الرئيس بومدين فينقل إلى الاتحاد السوفياتي بغرض العلاج، وبعد العودة يخضع للرعاية الطبية الفائقة بمستشفى مصطفى باشا، لكن إرادة الله شاءت أن تصعد روح الرئيس بتاريخ 27 ديسمبر 1978 فيفقد زڤار أعز صديق عايش معه مرحلة حافلة بالأحداث،

الطاهر وطار من خلال مذكراته "أراه... "الحزب وحيد الخلية... دار الحاج محند أونيسكيف قذف مساعدية بوطار إلى الجحيم فسقط في النعيم
م.ع.كريم
شكل صدور الجزء الأول من مذكرات الطاهر وطار، "أراه..."، حدثا ثقافيا شملت ظلاله أجنحة صالون الجزائر الدولي للكتاب في دورته الحادية عشرة، 2006. ويكفي التذكير هنا بما شهد به مدير دار الحكمة، ناشرة المذكرات، من إقبال عليها ترجمه بيع 300 نسخة خلال سويعات من اليوم الأول من عرضها.يتمحور هذا الجزء من المذكرات حول حادثة "الإحالة السياسية" لصاحبها على "المعاش" أو "الشيخوخة المبكرة"، كما يسميها، من جهاز حزب جبهة التحرير الوطني في النصف الأول من عقد الثمانينيات من القرن الماضي؛ ظروفها، وردة فعل الطاهر وطار إزاءها وانعكاسات ذلك على مساره السياسي والثقافي.الحادثة تبدو مفصلية للغاية في مسار صاحبها، وإلا فأي حادثة أكبر من تلك التي تقود صاحبها إلى شفا الانتحار؟ يحرص وطار في تناوله ظروف إحالته على المعاش "إحالة سياسية واضحة بينة" من حزب جبهة التحرير الوطني، الذي كان يشغل فيه منصب مراقب وطني، على إفادة القارئ وتنبيهه أولا، إلى "مراسلات العسكر" التي تشكو "مما ورد في قصة "الزنجية والضابط" المنشورة في مجلة "الآداب" البيروتية، وتلفت النظر إلى وجود عنصر خطير ضمن إطارات الحزب". وهذه المراسلات لا تخلو، عادة، من أهمية قصوى سواء بالنسبة إلى من توجه إليهم، أم بالنسبة إلى موضوعها. ثم ما بالنا إذا صادفت اتفاقا في الرؤية لدى مسؤول جهاز الحزب الذي "يفضل وجود مشعوذ يكتب الرقى والأحجبة في صفوف جبهة التحرير الوطني على وجود شيوعي... ". وهو ما يفهم منه أن الظروف ناضجة مبدئيا لاتخاذ أي إجراء في غير صالح المشتكى منه.وللولوج إلى قلب الأزمة يحط وطار رحال سرده في النقطة الملتهبة فيها. وهي مؤتمر الشبيبة الخامس؛ حيث يقول "..، وفي هذا المؤتمر انتهت علاقتي الشكلية بحزب جبهة التحرير الوطني. أحرقت سفني ونحرت إبلي وجعلت العدو أمامي والعدو خلفي والعدو على جنبي، ولا بحر حولي أهتم بأمره..." ثم يضيف "أحرقت سفني، نحرت إبلي، وسواء وشى بي الحاج عمارة (شقيق مساعدية) أم لم يش، وسواء أتخليت عن العقل، الذي أوصاني الرفيق صايفي بالوفاء له، أم لا، فقد اصطدمت مباشرة مع محمد شريف مساعدية في الميدان". ولكن كيف حدث ذلك؟تفيد المذكرات بأن ذلك حدث عن طريق التصميم على فتح النقاش عكس رغبة "أنصار الصمت" في قيادة الحزب. لقد كان وطار يتساءل عن جدوى مؤتمر للشبيبة لا يفتح فيه المجال لتضارب الآراء ومناقشة قضايا المشروع الاشتراكي الجاري تنفيذه في المجتمع. وبالتالي تلاقح الأفكار في اتجاه تعزيز مسار المشروع. غير أن الكلمة الأخيرة كانت في النهاية لصالح صف وطار، حيث فتح مجال النقاش وقرأ وطار قصيده الشعبي الذي من بين ما يقول فيه:"هذا خامس مؤتمرات..نجمة ضواية في السما تعلات..حمرا بدم الشهداء توضات..."وبعد هذه الحادثة، لم يبق على جهاز الحزب، حسب المذكرات، سوى فتح "ملف الطاهر وطار" بجميع صفحاته السياسية والثقافية. وهنا يشير صاحب المذكرات إلى "قضية استقبال الوفود الشيوعية العربية في بيتي عندما تزور الجزائر وغيرها". الأمر الذي جعل المسؤول الأول على الحزب في ذلك الوقت يعلق بالقول: "جبهة التحرير تدعوهم ووطار يجتمع بهم". أما فيما يخص الصفحات الثقافية للملف فيذكر وطار قضيتين هما "مشروع تحويل روايته الزلزال إلى فيلم"، وقضية رفض تزكيته لجائزة "اللوتس" التي يرعاها الاتحاد الآفروآسيوي للكتاب. المشروع الأول انتهي إلى الفشل بسبب اعتراض مسؤول اتحاد الكتاب الجزائريين، وهو مستشار لرئيس الحزب، عليه، بسبب انتماء كاتب الرواية للشيوعية. أما الثاني فبسبب عدم مساندة مندوب اتحاد الكتاب الجزائريين لمرشح الجزائر الذي لم يكن غير الطاهر وطار. حينما يصل وطار إلى نقطة الإحالة على المعاش يعلق بالقول: "وضعنا سي محمد شريف في كيس واحد ورمانا في المزبلة". فلقد قضي الأمر إذن: "مبروك عليك لقد سرحوك... إلى الخلف درت!.."وهنا يفيد وطار في مذكراته بأن مسؤول الحزب "... راح يرتب شؤون زملائي. ولا شك أنه كان يستقبلهم بعيدا عن الأعين، بينما تعرضت أنا للجوع... وها إنني أنتحر هاهنا في شاطئ بن حسين في منزلي الصيفي، هذه 22 سنة خلت".وعن تفاصيل "مشروع الانتحار يقول وطار في مذكراته:" أحضرت معي قنينة الحامض، خلطت كمية منها بالنبيذ في انتظار عملية الرحيل إلى العام المريح، فتنفرج كربتي نهائيا. بهذه الوسيلة التي هيء لي أنها المثلى. إذ يكفي أن أغمض عيني وأن أعب كأسا في بطني، ثم أتوجع منتظرا الحدث السعيد: العبور إلى ما وراء الجدار. جلست مستندا إلى الجدار وقارورة الخليط السعيد أمامي..." وهنا تفتح المذكرات مجالا للانخراط في سرد الظروف القسرية التي وجد وطار نفسه فيها، والتي كانت تحتم عليه اختيار واحد من ثلاثة حلول هي:إما الاستسلام للنوم والكسل ورائحة المطبخ، والانتقال إلى ممارسة التجارة والزواج والأولاد... وإما التحول إلى سكير مدمن والتعجيل بما تبقى من أيام الشيخوخة المبكرة المفروضة عليه،وأخيرا الانتحار. وهو الأمر الموشك على الوقوع.وهنا يعلق وطار قائلا "لا بد من إيجاد مخرج ما. لا بد من هيكلة جديدة لهذا الحزب الشيوعي- الطاهر وطار مع الاحتفاظ بخليته الوحيدة. وقبل اتخاذ القرار ومباشرة التنفيذ يطرأ الطاهر وطار على نفسه في هيئة فنان أديب ساحبا إياه إلى الوراء إلى هناك حيث البداية... إلى دار الحاج محند أونيس... وفي ومضة من ومضات الحلم، يستهلك وطار فيها ما يقارب المائة صفحة من السرد الجميل المتسربل بشؤون الطفولة ومشاغلها، متدرجا شيئا فشيئا في اتجاه استعادة الذاكرة العامرة بتفاصيل الحياة من مظاهرها الطفولية البسيطة في القرية المنشأ إلى تعاليق المثقف المدقق في مجالات الأنساب والفيلولوجيا والأنتروبولوجيا الثقافية والجغرافيا الخاصة بعشيرته ومنطقة منشئه... وهو ما يجعل المذكرات بحق، كما سجل الأديب عز الدين ميهوبي، سجلا "يتناول التاريخ بتجلياته والأفراد بأمزجتهم والسياسة بألاعيبها والكتابة بمتاعبها والنضال بانحرافاته والعلاقات الإنسانية باختلاف أهوائها كما لو أن حياة كل إنسان ليست أكثر من دراما فيها شيء من الملهاة والمكابدات..". وهنا ينفتح أفق حياة الطاهر وطار انفتاحه على الحياة عبر المذكرات عوض أن ينفتح على مآل غير محمود، كما ينفتح مرة أخرى، وأحمد، عشير المؤلف في منزله الصيفي، يوقد النور "فقابلته القنينتان، وقابلني ، يقول الطاهر وطار، أنا ديوان فرانسيس كومب" ممتهنو الربيع" فمددت يدي أتصفحه، بعد أن قررت أن أترجمه. وهكذا ابتعد شبح الانتحار نهائيا، وخلفته مهمة جديدة هي التفرغ للأدب وللثقافة العربية في هذا البلد المستهدف".وهكذا أيضا "بعث مسؤول الحزب الطاهر وطار إلى الجحيم فوجده ينبعث في النعيم، ولسان خياله يشير له بـ:" أن كل مسؤول يعين على رأس الحزب وحيد الخلية عبارة عن هداد يحرش الفحل المستسلم للإرهاق متوسلا: زررر، جيب عشاك وعشانا

ليست هناك تعليقات: