الاثنين، يوليو 13

الاخبار العاجلة لاكتشاف الجزائريين ان صراع المزابيين ضد عرب الجزائر يعود الى رفض اعيان غرداية اتسيطان العرب القادمين من الولايات الجزائرية بحجة ان ارض ميزاب ملك لقبائل قبيلة غار داية يدكر ان الفرنسين منحوا اسم غرداية نسبت الى امراة تسمي داية كانت تمارس الجنس في غار والاسباب مجهولة


الاخبار العاجلة لاكتشاف الجزائريين  ان صراع  المزابيين ضد  عرب  الجزائر  يعود الى  رفض  اعيان  غرداية  اتسيطان  العرب القادمين من الولايات  الجزائرية بحجة ان ارض ميزاب  ملك  لقبائل  قبيلة غار داية يدكر ان الفرنسين منحوا اسم غرداية نسبت الى امراة تسمي داية كانت تمارس  الجنس في غار  والاسباب مجهولة 

عبدالوهاب بن الشيخ عبدالرحمن بكلي-وزير سابق
هذا كذلك مقال لم ينشر بعد وهو حديث العهد نوعا ما، وقد أتى تبعا لِما عرفتها القرارة من قلاقل بكلّ أسف، قبل أن تشملها الأحداث الأخيرة، وهـو كما يلي:
 شاءت الأقدار أن أرفع قلمي هذه المرة لأسجّل بمرارة ما حدث بمدينة القرارة، هذه المدينة الآمنة المطمئنة الواقعة جنوب الجزائر وفي ولاية غرداية بالتحديد. فقد ذاع صيتها ونالت التقدير والاحترام بفضل مركزها العلمي إذ غدت المنارة بالنسبة لقرى وادي ميزاب لمّا استلمت مشعل الإصلاح الديني عن مدينة بني يسجن وقاد المسيرة المظفرة زعيمها المرحوم الشيخ بيوض إبراهيم بن عمر كما كان من أبنائها البررة رائد الصحافة العربية في الجزائر المرحوم الشيخ أبو اليقظان حمدي الحاج إبراهيم بن عيسى بالإضافة إلى العديد من العلماء المبرزين أمثال الشيخ عدون شريفي والشيخ الناصر مرموري رحمهما الله وغيرهما. ولقد كانت القرارة منارة للعلم بفضل معهد "الحياة" العامر الذي تخرّجت منه العديد من دفعات التلاميذ منذ الثلاثينيات، نبغ منهم فقهاء وكتاب أدباء وشعراء شرّفوا الجزائر جميعا ورفعوا رأسها عاليا، كما كان لبعض خريجيها شرف الجهاد والاستشهاد في سبيل الوطن وللكثير منهم فضل العمل المخلص الجادّ في بناء الجزائر، خاصّة في التعليم والصناعة والتجارة، والمجال لا يتّسع مع الأسف لذِكر أولئك وهؤلاء. ولا يفوتنا أن نشير إلى أنّ إشعاع هذا المعهد قد بلغ جهات متعدّدة من الوطن و بخاصّة أبناء الجنوب القريبين من القرارة مثل الشاعر الموهوب المرحوم محمّد الأخضر السائحي كما حظي به إخوان من ليبيا خاصة مثل الشيخ المرحوم علي يحي معمر وغيرهما كثر. وبعبارة موجزة كان لهذه القرارة دور هام في النهضة العلمية وفي الحفاظ على عنصرين هامّين من الهوية الوطنية وهما الدين الإسلامي واللغة العربية، خاصّة أيام أن كان الاستعمار الفرنسي البغيض يعمل بكلّ قواه ووسائله لطمس شخصية الشعب الجزائري
ولقد كان من جهة أخرى لعمل المشايخ التوعوي واستنهاض الهمم أثره البليغ في تنمية مختلف الحركات التجارية والصناعية لأبناء القرارة وغيرهم، سواء في الجنوب أو في شمال الوطن، ممّا وفر العديد من فرص العمل وساهم في رفاهية وازدهار أبناء البلدة والمنطقة، وهذا هو ما يمكن لأيّ دارس أو ملاحظ ذكي ومنصف أن يلمسه.
إنّ كلّ هذه النتائج هي مبعث فخر واعتزاز حقًّا، لكن طبيعة بعض النفوس قد تجعله مصدر حسد، فتعمل على إثارة النعرات وإذكاء نيران الفتنة بين الإخوة المتساكنين، وهو ما عاشته بعض مدن المنطقة مع الأسف، وعانت منه القرارة أخيرا.
ومن المعلوم أنّ ولاية غرداية لها وضعية متميزة. فقد جمعت إلى جانب السكان البربر الإباضيين إخوة عرب من المالكية. ورغم الاختلافات الطفيفة في التقاليد والعادات إلاّ أنّ التعايش والاشتراك بينهم كان قويا، سواء في الفلاحة أو تربية المواشي أو التجارة، كما كان للرضاعة بينهم دور إيجابي خاصّة في الماضي، فتوطدت العلاقات بينهم وساد الوئام، ونعموا بحسن الجوار منذ سالف الأزمان، وتأثّر كلّ من الآخر إيجابيا بفضل الروح السمحة والبساطة و العفوية والتكافل الاجتماعي، خصال كانت أقرب ما تكون إلى التقاليد العربية الإسلامية العريقة، فعمّ الخير الجميع واستفاد من النهضة العلمية التي احتضنتها القرارة كما أسلفنا.
لكن الأوضاع تطورت ولم تكن إيجابية كلّها مع الأسف. فطغى الحسد على التنافس المشروع والشريف، فبرزت دعوات إلى زعامات وتطرفات في ظلّ محاولة التسلّط والتحكم باسم النظام القائم. ولقد كان لمحاولة فرض النظام الاشتراكي ضلع في إثارة الحزازات والصراعات الهامشية حول مظاهر الثراء المزعوم ولما كان بارزا نوعا ما لدى الميزابيين الإباضيين، فجلب لهم من إخوانهم التحامل والتجني، فتطوّر بفعل التوجيه العقيم للسلطات الحزبية خاصّة إلى كراهية ثمّ حسد، تجدّر بفعل الزمن. وهكذا بدأت المناوشات والتعدّيات البسيطة للإخوة على بعض إخوانهم.
و لعلّ المحطة التي استغلت أكثر وألّبت البعض على البعض هي تطبيقات تدابير الثورة الزراعية. وللعلم فإنّ أبناء الجنوب عامّة والقرارة على وجه الخصوص قد اعتنوا بغرس النخيل، بل سخّروا وسائل جبارة لتوسيع المساحات بتعبيد الطرق عبر الغابة وإحياء الأراضي، فأنشؤوا واحات غنّاء بذلوا في سبيل ذلك جهودا مضنية و أموالا طائلة، لكن لمّا لم تتبع جهودهم تلك بالإجراءات الإدارية كإصدار العقود ولو مؤقتة، أصبحت المساحات المستصلحة موضوع جدل واعتبرت مثل غيرها من أملاك الدولة الشاغرة لتشملها المرحلة الأولى من تطبيق الثورة الزراعية، مع العلم كما ذكرناه في مقال آخر أنّ مستوى المساحة وكذا عدد النخيل المعتمد كان مجحفا حقًّا، ذلك أنّ الواحات عموما وفي ولاية غرداية على الخصوص لها طابع متميّز اجتماعيا، ولا يمكن اعتباره ذا مردود اقتصاديا. ولمّا كانت تلكم المساحات قد انتزعت لطائفة بني ميزاب وأسندت لإخوانه العرب فقد أصبح مثل هذا الإجراء من عوامل زرع الغضب فالحقد بين الإخوة، ولم تفلح الطعون المطروحة على مكاتب المسؤولين من تصحيح الأخطاء المرتكبة في حقّ هؤلاء الذين وضعوا ثقتهم في الدولة لمّا بذلوا الجهود الجبارة لتوسيع غرس النخيل بإحياء الأرض الموات، ولا في تدارك الأخطاء في حقّهم ابتداء من منحهم العقود إلى حمايتهم من التطبيق المجحف لتدابير الثورة الزراعية.
وهكذا بدأ التحامل على طائفة بني ميزاب فوصفوا بالبرجوازيين في حين أنّ نظامهم الاجتماعي بفضل تضامنهم هو أبعد ما يكون عن تلكم الذهنية. ذلك أنّ ما توصلوا إليه من شبه رفاهية تحصلوا عليه بفضل مثابرتهم وتحمّلهم الصعاب والعيش الضنك منذ زمان، وبخاصّة أيام الحكم الغاشم الذي جثم على الجزائر عامّة، وعلى الصحراء بوجه خاص لمّا كان الحكم العسكري مسلّط عليهم. فإذا ما تمكّن سكان الجنوب مثل القرارة من تكوين رصيد أو ظهرت عليهم علامات شبه رفاهية في الآونة الأخيرة، فذلك إحدى النتائج الإيجابية للاستقلال من جهة وللعمل الجادّ الذي يمتازون به كما يشهد بذلك كلّ من عرفهم أو عاشرهم من جهة أخرى. فمن الخطإ إذن حشر العاملين الذين وفّروا أموالا بعد أن حرموا أنفسهم وأهليهم منها مدّة، مع من استفاد ممّا ترك المعمّر أو من ريع ثروات الوطن. إنّ هذه النظرة وهذا الحكم المجحف المفرط لهو من الأسباب الدفينة للحنق السائد بين الإخوة مع الأسف.
هذا ومن العوامل التي عمّقت هذا الشرخ ما أتت به النظريات المتطرفة مع اتساع الدعوة الإسلامية وبروز الأفكار السلفية التي رجعت إلى نبش الماضي الدفين، والذي طوي بفضل الوعي الوطني والتلاحم الذي تدعم إبّان الثور أيّام كان كلّ الجزائريين صفًّا متراصا ضدّ المستعمر، فلم تفلح أيّة محاولة لإحداث أيّة ثلمة في صفوف الجزائريين أبناء الوطن الواحد. ويعلم الله كم حاول  المحتل وأذنابه وعلى الخصوص اليهود الذين يعتبرون بني ميزاب منافسين لهم بقوّة في التجارة من زرع الفتنة. فلمّا لم ينجحوا فكّروا في ما سمي بالمقاطعة لهم بإغراء إخوانهم عليهم، معتمدين على انتمائهم للمذهب الإباضي الذي كانوا ينعتونه بالخَامْسِي. ولقد وقعت محاولة في الماضي سواء في البليدة أو في قسنطينة قاسى منها التجار الميزابيون كثيرا، لكن المحاولة الأخيرة التي لجأ إليها العدو بتواطئ مع تجار الجملة اليهود أيّام الثورة باءت بالفشل الذريع بفضل التدخل الصارم لقادة الثورة المظفرة، ذلك لأنّ لها في عدّة دكاكين للتجار الميزابيين مراكز حسّاسة للقيادة العليا آنذاك.
لكن إثارة هذه النعرة من جديد باسم النظريات السلفية التي بدأت تترسخ في الجزائر، وتنعت الإباضية بالخوارج، مع كلّ ما ينسب إليهم بهتانا وزورا، هو ممّا يعدّ نفخ في الرماد الذي يغطي الجمر، وهو ما هيج العواطف وأجج نيران الفتنة اللعينة بين الإخوة الذين نعموا بثمار الحرية وما وفّرت القرارة وغيرها من مدن وادي ميزاب من حظوظ وفرص للتعلم والعمل في مودّة واحترام.
لقد كان الجو أخويا حقّا لولا استغلال مثل الأخطاء التي أشرنا إليها. هذا وإنّ اعتماد بعض السلطات الإدارية والحزبية على التفرقة بين بني ميزاب والعرب، بدعوى التوازن بينهما بمناسبة مختلف الاستحقاقات الانتخابية أو التعيينات الإدارية، لممّا عمّق الشعور بالتهميش والحڤرة كما يقال. وكلّ ذلك ظل يفعل فعلته في الشعور واللاشعور إلى أن اعتمدت الجزائر التعددية وحرية الرأي والمعتقدات، فانبرى كلّ طرف يسعى في فوضى لدعم مواقفه محاولة انتزاع حقوقه، ولو على حساب الاستقرار والأمن العام، ممّا أضاف لعناصر التوتر قوة فتعقدت الأمور.
 هذا وإنّا لم نتعرض إلى المعاكسات والتعسف في التعامل مع المواطنين، والتجاوزات بصفة عامّة في مجال استعمال اللهجة المحلية وتسمية واجهات المحلات بها مثلا، ولو كانت تكتب بالأحرف العربية، أو المحافظة على اللباس التقليدي الساتر خاصّة للكشافة، ومحاولة فرض القبعة الإفرنجية بدل الطاقة البيضاء المعروفة في الوطن والرمز في المنطقة، إلى غير ذلك ممّا يتّصل بالتقاليد والعادات مما يثير غضب و استنكار الشباب خاصّة.
وبالنسبة للقرارة فقد عرفت أحداثا مصطنعة مثل قضية اتهام فرع الحياة للكشافة الإسلامية الجزائرية بتدنيس العلم الوطني، فأقامت الدنيا ولم تقعدها إلاّ حكمة المشايخ والأعيان لبني ميزاب والعرب كما اصطلح عليه، لكنّها تركت مع الأسف آثارا عميقة. ولقد شهدت القرارة مظهرا له دلالاته يوم أن زار فخامة رئيس الجمهورية السيّد عبد العزيز بوتفليقة المدينة إذ استقبله سكان حي من أحيائها، حيث يسكن الإخوة العرب، بنداء يطالبون فيه باستحداث بلدية خاصّة بهم. ولقد اعتبره المتتبعون آنذاك مؤشرا خطيرا لما تعيشه القرارة والمنطقة عامّة. وقد اعتبرت هذه اللقطة صورة لتردي الأوضاع وسوء الأحوال وممّا ينذر بأخطر من ذلك.
وتأتي أحداث أخرى قبل أشهر بمناسبة تخصيص قطعة أرض لبناء مساكن، فانبرى فريق يدعي أنّها أرض دفن فيها ولي صالح لهم، لكن حكمة الكبار دوما كانت صمام الأمان فأخمدت النار لوقتها، و لو أنّ الجمرة بقيت مشتعلة تحت الرماد، وهكذا استغل بعض الشباب الطائش مناسبة مقابلة في كرة القدم بين فريقين من أبناء البلدة لإذكاء النار من جديد. فبمجرد انتهاء المباراة حتى بدأ التراشق بالحجارة بينهم، ثمّ تطورت الأوضاع فاتسعت المناوشات، ومسّت مختلف المحلات التجارية لتصل إلى الحرق والنهب، ثمّ التعدي بالضرب واقتحام المنازل والترويع والإيذاء بمختلف الأشكال، ممّا سبب في انتشار الفوضى، فشلّت الحركات وانقطعت التموينات بحيث اضطرت النفوس الخيّرة إلى نجدة البلدة بمختلف الحاجيات، حتّى الضرورية منها مثل الخبز ما دامت المخابز قد مسّها التخريب.
هذا وإنّ المظاهر التي شوهدت في القرارة من وضع المتاريس وإحراق العجلات والتراشق بالحجارة والزجاجات الحارقة والسطو على المحلات والممتلكات، والتحامل على أعوان الأمن هي نفسها التي نشاهدها هنا وهناك بمناسبة أيّة مظاهرة أو احتجاج. فقد غدت مع الأسف أسلوبا معتمدا بعد أن اقتبس ممّا يشاهده الجمهور عبر الشاشات لما تعرضه عند الآخرين. هذا وإنّ الإذعان لمثل هذه التصرفات ومحاولة التفاوض مع المشاغبين، لممّا شجّع الآخرين على اقتفاء أثرهم ما دامت السلطات العليا تخضع لهم.
ولقد نتجت عن هذه الفوضى خسائر كثيرة، كما تضرّرت أملاك وخربت محلات، وأتلفت سلع مختلفة وسرقت بعضها، كما سجلت حالات عديدة من الجرحى ووفاة شاب متأثر بجراحه. إنّ هذه الخسارات يمكن عدّها بالهينة إذا ما قورنت بما تركته وتتركه في النفوس من رواسب وجروح  معنوية قد لا تمكن مداواتها إلاّ بعد مدّة، وبفضل جهود جبّارة ومساعي حثيثة حميدة، وذلك ما نتمناه من صميم الفؤاد.
ولعل من العوامل المطمئنة ما دعونا إليه في مناسبات عدّة وهو الاعتناء بالجانب المعنوي، بإيلاء المذهب الإباضي المكانة التي هو أهل لها، وكذا المذهب الحنفي إلى جانب المذهب المالكي الذي هو بحقّ مذهب الأكثرية، وعدم إغفال ذِكره على الأقل في معرض الحديث عن مكونات العقدية للشعب الجزائري، لأنّ ذلك يعطي لهذا العنصر الهام وزنه على مستوى الاعتبار الرسمي، ويعدّ هكذا اعتراف به. كما يجب تشجيع الجهود للتعريف به من منابعه الصافية الأصيلة حتّى تنفى عنه الشبهات، وتحارب الدعوات الجاهلية التي تنعته بالخوارج، وهو ما اعتمد عليه مثيرو الفتن قديما وحديثا، والإنسان دوما عدو لِما جهل.
أمّا عن اللهجة المحلية فيكفي السماح لمن أراد التداول بها أن يتمتع بذلك، خاصّة وأن أبناء ميزاب قد سبق لأجدادهم التأليف والتدوين بها مستعملين الحروف العربية دون عقدة، ذلك أنّ علماء المنطقة يؤمنون أنّ اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنّة، لا تدانيها أيّة لهجة أو لغة أخرى. هذا وإنّ اعتماد فكرة الإذاعات المحلية هي من المبادرات الحميدة التي ساهمت كثيرا في حلّ هذه القضية التي حاول بعض ممّن يصطادون في المياه العكرة استغلالها، واغتنام الفرصة للتدخل كما شاهدنا في الأحداث الأخيرة في القرارة، مثل ما حاولوا قبل اليوم في أحداث بريان، فلم تأت تلكم التدخلات إلاّ بالنتائج العكسية.
ولقد ظنّوا أنّهم بإقحام مسألة حقوق الإنسان أن يعطوا وزنا لمحاولاتهم، كما بالغوا في تشويه تدخل القوات الأمنية للنيل منها وللاعتماد على الهفوات الصادرة منها لتبرير تدخلاتهم، وانتقال بعضهم إلى عين المكان للاطلاع على التجاوزات حسب زعمهم لفضحها، لكن لم تزد مساعيهم إلاّ تعقيدا للأوضاع عوض انفراجها بل تمّ تأويلها كدعم لطائفة، ممّا زاد الوضع تأزما. ولا بأس أن نشير إلى ضرورة اللجوء إلى قوات من خارج الولاية للتصدي لأحداث الشغب عموما، حتّى لا يقع عناصرها الساكنون في أيّة ولاية أو منطقة في حرج نظرا لمعرفتهم بالنّاس أو الاختلاط معهم أو حتّى مصاهرتهم.
وممّا يحز في نفوس شباب المنطقة هو عدم إسناد المناصب العليا لهم رغم تمتعهم بالكفاءات العلمية السامية والتجربة الكافية المطلوبة لتقلّد مثل تلك المناصب والمسؤوليات في حين أنّ جهات أخرى من الوطن حظيت بمثل هذه الالتفاتات الذكية.
ولقد ظنّ أهل المنطقة أنّ مناسبة التعيينات الأخيرة مواتية لتدارك الأوضاع لكن بدون جدوى. ولعلّ ما زاد في إحباطهم هو ما لمسوه حتّى من تجاهل قرار جريء لفخامة السيّد رئيس الجمهورية لدى زيارته لولاية غرداية وإعلانه أمام الملإ عن تسمية الجامعة باسم العلامة الجليل وقطب الأئمة المرحوم الشيخ أطفيش محمّد بن يوسف. ولا أحد يدري لحدّ اليوم ما هي الموانع التي تقف وراء هذا التماطل وعدم احترام القرار الرئاسي، غير أنّهم قد ربطوا ذلك بما عاشوه بمناسبة تعليق اللوحة الحاملة لاسم العلامة الجليل الإمام المرحوم الشيخ بيوض إبراهيم بن عمر على واجهة ثانوية القرارة. فقد اضطر فخامة السيّد رئيس الجمهورية إلى أمر السيّد والي الولاية آنذاك بالتنقل والإشراف بنفسه على العملية فتمت وسط رضا ومباركة الجميع.
إنّ هذه التصرفات ومثيلاتها حول تسميات عدّة هي من عوامل التوتر والقلق الذي يزيد في شحن الأجواء مع الأسف، خاصّة لمّا يتعلّق الأمر بالماضي، وما يستغله الكثير من الانتهازيين للمزايدة والتبجح بالمشاركة في الثورة ومحاولة النيل من رموز المنطقة بالخصوص، في حين أنّهم ليسوا على دراية تامّة بحقيقة الأوضاع وخلفياتها بل وأسرارها لأنّ ذلك من طبيعة المعركة وأساليبها.
وتبقى حتمية دراسة الأوضاع بعمق وتحليل ما جرى ويجري، لتدارك الأمر وعلاجه بجدّية وسرعة، حتّى لا تتكرر مثل هذه المآسي مرّة أخرى، أو تتطور إلى ما لا تحمد عقباه. فلابدّ إذن من حلّ المشاكل العالقة بخصوص السكن والشغل خاصّة، ولو أنّ البطالة الظاهرة لا تفسّر لوحدها ما يصدر عن الشباب، إذ الآفات الجديدة التي تنخر يوما بعد يوم جسم المجتمع الجزائري هي الأولى بالتتبع عن كثب. فالمخذرات قد انتشرت مع الأسف بشكل مهول ومسّت مختلف الطبقات، وأضحى تعاطيها ملجأ لكلّ من يشتكي من أيّ مشكل أو بدونه. ثمّ إنّ شبكات توزيعه قد وفّرت لبعض العاطلين وبخاصّة الشباب، مصدر ارتزاق ودخل معتبر بأسهل الطرق وأسرعها. ولعلّ هذه الظاهرة هي التي تكون وراء العديد من المشاغبات حتّى تحوّل أنظار المسؤولين، وكذا مصالح الأمن عنهم حتّى يتسنى لهم التستر من جهة، ومواصلة النهب والسرقة من جهة أخرى. لذا يجب تتبع العصابات التي تتعامل مع هذه الآفة، وبخاصّة بعد رجوع الأمن والاستقرار للقضاء على بؤر الداء، واستئصاله من جذوره التي لا شك وأنّها تمتد إلى العديد من البارونات، ذلك لأنّ هذه الظاهرة الرهيبة والهدّامة أصبحت من الآفات العابرة للبلدان بل والقارات. لذا أضحى لزاما كلّ مرّة على المسؤولين البحث عمّن وراء هذه التحركات المريبة وعن المستفيد منها.
ومن المهمّ أيضا فتح تحقيقات لفضح المتسبّبين في كلّ هذه الفوضى، حتّى لا يتساوى الظالم والمظلوم المتضرر كما سبق وأن وقع ذلك، كما يجب الأخذ بعين الاعتبار ومراقبة العناصر العديدة الوافدة عبر مختلف وسائل النقل، إذ أنّ سهولة التنقلات وسيولتها قد مكّنت كلّ متربص أو طائش من التسلل إلى أيّ مكان يشهد اضطرابات للإمعان في الإجرام والسرقة والمساهمة في بث الفوضى، وزرع الفتنة وتأجيج نارها.
وهناك ظاهرة أخرى لا بأس من الإشارة إليها، وهي التفرقة التي ظهرت أخيرا في صفوف الأقسام، فصار حتّى الجلوس مصنّفا تبعا للطائفة، وهو مؤشر خطير يجب على الأساتذة والمعلّمين محاربته بدون هوادة، وبكلّ لباقة وبيداغوجية إذ تعتبر المؤسسات التعليمية مهد التربية وإحدى رسالاتها المقدسة، ذلك أنّ هذه الظاهرة إن استمرت من شأنها تقوية العنصرية بين التلاميذ منذ الصغر. وما دام التمدرس يدوم لسنوات فإنّه مع الأسف يعمّق الشرخ، فلا تلبث أن تظهر آثاره في سلوكات الشبيبة عند ولوجهم الجامعة، ثمّ لدى الكهول في مختلف مناحي الحياة.
وبالمناسبة حبّذا لو رجع تنظيم التعليم العالي إلى فكرة الجامعة حسب التخصّصات، واعتماد أقطاب جامعية ولو تعدّدت، تجسّد حقًّا معنى الجامعة، فيلتقي مختلف أبناء الجزائر مع بعضهم البعض، فيكونون متعارفين ولو أتوا من ولايات مختلفة، منسجمين في التكوين والتوجيه، وتربطهم صداقات لها ما لها من آثار حميدة فعالة في باقي حياتهم، كما أنّ لها عظيم الآثار في الحياة العملية بعد التخرّج وخوض غمار العمل. وبهذا التوجّه نبطل فكرة جامعة الدوار فنقضي على الانغلاق والتقوقع اللذان يقويان العنصرية، ويغذيان الكراهية التي تعتبر الطامة الكبرى لمّا تتجذر حتّى في أوساط المثقفين.
ويبقى التوجيه والإرشاد الديني دعامة أساسية لابدّ من الاعتناء بها على الدوام، فلا تكفي الحملات ولا المناسبات فقط لتعهد المواطنين عامّة والشباب خاصّة، كما يجب على متصدري هذه المهمّة الخطيرة أن يتجنبوا الشبهات، فلا يركزوا على الاختلافات بقدر ما يلحوا على عناصر الوحدة وما أكثرها والحمد لله. وفي هذا السياق لا بأس للوعاظ والمرشدين وكذا وسائل الإعلام عامّة أن يتنبهوا إلى خطورة الإشاعات والأكاذيب التي تبث بهتانا وزورا، أو حتّى إلى الأحاديث المغرضة أو المضلّلة التي تدس السمّ في الدسم، أو تدخل في متاهات وجزئيات عهود الانحطاط التي عرفها الإسلام.
وفي الختام لا يمكن لأيّ عاقل إلاّ أن يتأسف ويتحسّر لِما جرى ويجري. لا في القرارة، أو قبل ذلك في بريان وغرداية أو في غيرها من مدن الولاية مثل متليلي أو المنيعة أو الضاية، أو في أية منطقة من الوطن، لأنّ ذلك ممّا يزعزع استقراره ويعطّل نموه وتقدّمه من جهة، ويعكر صفو حياة المواطنين من جهة أخرى، زيادة على تشفّي الأعداء فينا، وهذا ما لا يجب على أيّ غيور على وطنه أن يرضاه خاصّة وأنّه عرف بالتسامح والتعايش، في أمان وأخوّة وتضامن إسلامي عريق منذ غابر الأزمان.

العطـف يوم:  31  ديسمبر  2013م

حــــول فتنة بريـان

عبدالوهاب بن الشيخ عبدالرحمن بكلي-وزير سابق
قد يعتبر أنّ هذا المقال قد أتى متأخرا نوعا ما، ذلك أنّ الظروف الصحية الشخصية خاصّة هي التي كانت السبب الرئيسي. لكن الأحداث المريرة التي عرفتها مدن المنطقة تترك المتتبع لها يبقى مشدوها لِما يلاحظ أنّ افتعالها كان يتزامن للأسف مع مناسبات حسّاسة عزيزة ومحترمة بل وبعضها مقدسة مثل رمضان المعظم أو المولد النبوي الشريف، وهذا ما يترك الدارس لمجريات الأمور يشك ويطرح أكثر من سؤال حول الدوافع الحقيقية وعن المقاصد والأهداف من وراء كلّ هذه القلاقل والتصرفات المريبة إزاءها.
إنّ كل هذه المشاعر هي التي حدت بي إلى محاولة تناولها بالحديث والتعليق عليها حسب وجهة نظري. فكان هذا المقال:

سبق لي وأن كتبت مقالا حول أحداث غرداية حاولت التعرض فيه إلى ما عرفته المدينة آنذاك من شغب وأعمال مؤسفة وتخريب طال الممتلكات العامّة والخاصة والأشخاص، وهو ما اعتبر حقًّا مذهلا في منطقة عرفت قديما بهدوئها وسلوكاتها الحضارية والتعايش السلمي بين مختلف مكوّنات سكانها.
وبحثا عن الدوافع والأسباب القريبة والبعيدة التي قد يكون لها دخل ذكرت بعض المحطات التي أعتبرها هامّة وهي التي كانت وراء تراكم الإحباطات فأدّت إلى الغضب فالانفجار والردود العنيفة والمؤسفة حقا. وفي آخر المقال رأيت من الواجب إلفات النظر إلى ما اعتبرت وأعتقد أنّه خطر محدق بالجزائر عموما وبالمنطقة خاصّة نظرا لخصوصيتها لهجة ومذهبا وذلك بالتكفل بمثل هذه الأوضاع الخاصّة والحسّاسة حتّى لا يتخذ أنبل مكونات الهوية الوطنية وهو الدين الإسلامي مفجرا للأوضاع الهادئة في حين أنّه كان عبر السنين الإسمنت الذي رصّ صفوف الشعب الجزائري إذ لم يكن لمختلف المذاهب الدينية أيّ صراع يذكر والحمد لله بل على العكس عرف تعايشها كلّ الازدهار، ولعل أنصع نموذج عرفه تاريخ الجزائر كان الدولة الرستمية.
لكن ومع الأسف وقعت أحداث أخرى مؤلمة في مدينة بريان بعد ذلك. فأضحى حقًّا بل وواجبا عليّ وأنا ابن البلدة أن أحاول الكتابة والتعليق عليها، خاصّة وأن أحد زملائي في لجنة التحقيق حول أحداث منطقة القبائل التي شكلها الأستاذ إسعد، وهو الأخ شريف بن ناجي أستاذ القانون بجامعة الجزائر، طلب منّي أن أكتب مقالا، مساهمة منّي حول هذه الأحداث، نظرا لكوني ابن البلدة ونائب سابق عن ولاية غرداية في المجلس الشعبي الوطني، وأعتبر كذلك أحد أعيان هذه المنطقة، فحاولت أن أسجل ذلك كما طلب منّي باللغة الأجنبية نظرا لأنّ النشر سيكون في المدونة السنوية لعام 2009 للمركز الوطني للأبحاث العلمية في فرنسا.
فلما صدر الكتاب رأيت من المفيد أن أنقل ما كتبت إلى اللغة العربية، وبعد ذلك سأحاول التعليق عليه بمزيد من المعلومات نظرا لأنّ القضية تطورت وعرفت أطوارا متعدّدة وهي إلى الآن معلقة مع الأسف.
 وبدون إطالة هذه هي الترجمة:
"قد اندلعت أحداث مؤلمة ومؤسفة في بلدية بريان الواقعة حوالي 45 كلم من مقر الولاية غرداية، وذلك عشية المولد النبوي الشريف (يوم 19 مارس 2008 ) وامتدت إلى 21 مارس من نفس السنة، وقد عرفت هذه الأحداث تقلبات بين شهر ماي وجويلية من سنة 2008م وإلى هذا اليوم (ديسمبر 2008) لا زلنا نشهد مناوشات تقع بين الفينة والأخرى، وسببها أساسا محرقة ألقيت بين رجلي امرأة كانت مصحوبة بأبنائها.وهكذا فإنّ بعض الشباب الإباضية الذين هم بربر ومن المالكية الذين هم من العرب اغتنموا هذه الفرصة ليتحامل بعضهم على بعض. وقد وقع التعدي على مختلف الدكاكين والديار وكذا النهب والحرق مع الأسف، ووقعت هناك تبادلات لرمي الحجارة وسجلت كذلك تعديات هنا وهناك. ومن جهة أخرى فإنّ التلاميذ قد حرموا من الالتحاق بأقسامهم لأنّهم كانوا مهددين ومعتدى عليهم. ولقد سجلت البلدة ثلاثة وفيات وكثيرا من الجرحى. وهكذا انتشر جو من الخوف والرعب في بلدة بريان، هذه البلدة التي كانت معروفة قبل اليوم بهدوئها وتعايشها الجدّ إيجابي. 
وفي هذه الأجواء المشحونة ظهرت عبارات أو تعبيرات مختلفة وظهرت كذلك محاولات للتهدئة لكن مع الأسف لم تكن محاولات كلّ الأعيان الذين بادروا بمسموعة. وهناك محاولات أخرى بدأت بتدخل رئيس الحكومة آنذاك وهو المنسق لحزب جبهة التحرير الوطني، ثمّ جاءت محاولة للإخوان أعيان ورڤلة والأغواط لكن كلّ ذلك لم يجد نفعا، لأنّ السلطات الولائية أصرت على أن تتم التهدئة والتسوية على أيديهم. ومن جهة أخرى حاولت السلطات المحلية والمدعومة بقوى الأمن المتواجدة، حاولت وبذلت مجهودات لاستتباب الأمن لكن بقيت هناك مع الأسف من حين لآخر مناوشات تقع.
وفي خضم هذه الأوضاع الغامضة ظهرت مناشير من هنا وهناك لكن غير معروفة الهوية فنسبت بالتالي لهذه الجهة أو تلك إذ قد لجأت إلى هذا النوع من التعبير لأنّه كان صبًّا لجام الغضب وتعبيرا عن الكبت. والملاحظة الأساسية أنّ محتوى هذه المناشير لم تكن لبقة بل كانت عكس ذلك.
وبعد فترة من الأحداث، وما فيها من التهجمات على المحلات والسرقة والحرق فقد أصبحت بعض العائلات ملزمة بمغادرة منازلها لتستقر في أماكن أخرى أو في المدارس كملاجئ.
وقد كان المنتخبون المحليون وإلى جانبهم بعض العقلاء حاولوا تهدئة الأوضاع ولكن دون نتيجة تذكر.
 ولفهم هذه التصرفات لابدّ من الرجوع إلى الانتخابات المحلية الأخيرة (سنة 2007.) وبالفعل فإنّ الجو الذي كان موجودا كان متوترا تبعا لنتائجها التي أعطت الفوز لقائمة التجمع الثقافي الديمقراطي فأصبح لها رئيس في بلدية بريان، وهو ما فسّره الإخوة المالكيين الموالين لجبهة التحرير الوطني كإقصاء من طرف الإخوة الإباضية الذين دعموا قائمة التجمع الثقافي الديمقراطي خاصّة وأنّ أعداد المنتخبين كان متساويا مع قائمة جبهة التحرير الوطني، لكن عدد الأصوات أعطى الأولوية والفوز ورئاسة البلدية لهذا التجمع الثقافي الديمقراطي. وهذه الوضعية تذكرنا بالأحداث التي وقعت سنة 1990م غداة نجاح القائمة الحرة في الانتخابات المحلية ضدّ قائمة الحزب المحظور آنذاك جبهة الإنقاذ الإسلامية وعرفت إثر ذلك بريان أحداثا مثل هذه أدّت إلى وفاة شخصين مع الأسف.
 وإلى جانب ذلك يجب أن نذكر أنّ اختيار هذه القائمة للتجمع الثقافي الديمقراطي في بريان أو القائمة المنسوبة لجبهة القوى الاشتراكية لم يكن أبدا عن قناعة ولكنّه كتحدي لقائمة جبهة التحرير الوطني وليس لجبهة التحرير كحزب تاريخي. وفعلا إنّ حزب جبهة التحرير كان بين أيدي أناس فقدوا كلّ ثقة شعبية وسط المجتمع، وهذا نتيجة لهيمنة طويلة دامت مدّة تبعا لهيمنة هذا الحزب على الأوضاع آنذاك. وقد فقدوا كذلك الثقة لتصرفاتهم وتدخلاتهم في عدّة قضايا وبصفة مشبوهة مع الأسف. ويجب أن نلاحظ من جهة أخرى أنّ نفس الأشخاص ونفس الوجوه رجعت لتدعم مكاسبها وبالتالي أفقدت الثقة فيها ولم تنجح بالظفر برئاسة البلدية.
أمّا الأسباب العميقة القديمة هي: تردي الأوضاع المعيشية والبطالة ثمّ من جهة أخرى التطرف: التطرف الديني والسلفي من جهة الإخوة المالكية واللغوي الأمازيغي من جهة الإباضية. وهذه المعطيات يجب إضافتها مع الأسف لمفعول المشروبات الكحولية والمخدرات. هذا و يجب أن نشير إلى أنّ مختلف الوافدين من الشباب على بريان من بلديات مجاورة كان أملهم هو وجود عمل لدى الشركة الوطنية للمحروقات في حاسي الرمل التي تعتبر قريبة جدًّا من بريان. فوجود هذه العناصر إلى جانب البطالين من بلدة بريان كونوا فريقا من المتطرفين، ومنهم جندت عناصر ملثمة لزرع الفتنة والشغب مع الأسف دون التعرف عليها.
وربّما يجدر بنا الرجوع إلى ظاهرة التطرف الديني، فبالرغم من مجهودات الأعيان ومشايخ الإباضية الذين حاولوا تصحيح بعض الكتب المدرسية فإنّ الخطب السلفية التي كانت تلقى كانت تنفث سمومها مع الأسف، خاصّة وأنّها كانت تركز على أنّ الإباضية من الخوارج مع ما لذلك من النتائج السلبية وما لها من التأثير على النظريات السلفية المتطرفة بصفة خاصّة. وأمّا نتائج الانتخابات البلدية ونجاح قائمة التجمع الثقافي الديمقراطي وظهور تحرك جبهة القوى الاشتراكية في خضم الأحداث فقد اعتبرت كجرائم ضدّ النظام القائم وهذا خطأ لأنّ هذه الأحزاب كانت معتمدة بصفة رسمية.
ومن جانب آخر لقد عرفت البلدة جمودا شبه تام لمّا رفضت الهيئة التنفيذية للبلدية الجديدة أن تتسلّم الأمور من دون تحريات مسبقة، وهذا ما دفع بمناوئيها إلى اتّخاذ مبادرات لدى السلطات المحلية والعليا للتشكيك في مصداقية هذه البلدية الجديدة. وهنا يجب أن نشير أن سنّ المنتخبين الذين يعدّ أكثرهم من الشباب عديمي المعرفة والتجربة في مجال تسيير الشؤون العامّة بالإضافة إلى تدخلات أحزابهم دون الأخذ بعين الاعتبار المصلحة العليا للبلدية ظنًّا منها أن تدخلها هو لصالح إقرار نظرية الأحزاب من دون الأخذ بعين الاعتبار مستقبل المنطقة وفائدة البلدية.
وبخصوص المشبوه فيهم أو المتهمين بعد هذه الأحداث التي وقعت في بريان تجدر الإشارة أنّه يجب التفريق بين المتهجمين والسارقين ومرتكبي مختلف المخالفات والآخرين الذين اتّهموا باطلا بإذكاء نار الفتنة بإصدار مناشير. هذا وإنّ مختلف السلطات المحلية والأعيان والمنتخبين ما فتئوا يبذلون الجهود لإرجاع الهدوء لبريان ولكن الشباب المتحمسين كانوا يستغلون كلّ مناسبة لإظهار عدم رضاهم وموافقتهم بل كانوا يتمادون ويسعون لزرع الفتنة حتّى إنّ قوات التدخل التي اضطرت لتفريق التجمعات إلى حدّ استعمال الغازات المسيلة للدموع قد زرعت الرعب حقًّا.
ودائما في إطار البحث عن إرجاع الهدوء فإنّ السلطات والأعيان حاولوا وتدخلوا لدى المنتخبين الجدد لتغيير الهيئة التنفيذية التي يشرف عليها رئيس من حزب التجمع الثقافي الديمقراطي. ونتيجة لذلك فإنّ أحد الثلاثة الذين انتخبوا ضمن قائمة هذا التجمع التحق بقائمة جبهة التحرير الوطني وكذا اثنين من جبهة القوى الاشتراكية، وهكذا فقد سحبت الثقة من رئيس البلدية ليقع استبداله بأحد من هؤلاء الاثنين الذين التحقوا من الجبهة الاشتراكية علما بأنّ هذا العضو المنتخب كان من قبل رئيسا للبلدية لعهدتين.
إنّ هذه المحاولات ونتائجها قد تركت نوعا من الرضا لدى الشباب الذين كانوا خاصّة مساندين لهذه القائمة التي تعدّ تحديا كما أشرنا إليه، فاتجهت الأوضاع نحو الهدوء رغم ما بقي من بعض الأعمال التي تدل على أنّ عدم الرضا لا زال موجودا. هذا وإنّ تدابير الإخلاء أو الإفراج عن بعض المساجين الذين حوكموا، وبعد أن قضوا مدّة سجنهم، كانت مناسبة للشباب للتعبير عن عواطفهم لكن مع شيء من الاستفزاز.
وفي الخلاصة يمكن أن نقول إنّ هناك عناصر خارجة عن بريان أو عن الولاية قد تدخلوا، وحاولوا استدامة عدم الأمن وزرع الفتنة واستغلال الأوضاع مع ما في هذه التصرفات من تطرف ديني صادر من طرف السلفيين أو تطرف لغوي كان كرد فعل صادر من الأمازيغ كذلك.
لذا أضحى أكثر من الضروري رفع اللبس الذي وقع حول الإباضية ونعتهم بالخوارج وأن يقع توضيحه رسميا من الجهات العليا كما يجب كذلك أن يكون للغة الأمازيغية اعتناء واحترام لتفادي كلّ استعمال لها سياسوي. ومن أجل هذا أضحى كذلك من المستعجل أن تعطى لهذه التوجهات أهمية واعتبارا وأن تحظى النظريات التي توجد في وسط المجتمع، لا في بريان فقط وإنّما في مختلف جهات الوطن، أن تحظى برعاية خاصّة لأنّ الأهداف السامية لأيّ تطور وأيّ نمو لا يكمن في العيش الهنيء للمواطن فقط بل وفي حفظ قيمه كذلك، إذ يجب أن تكون الرائدة حتّى نضمن له مستوى حضاري محترم.
إنّ هذا الدور يجب أن يكون له اعتبار وتكفل من طرف العائلة التي تعدّ القاعدة الأولى ومن طرف الجهات المعنية وبخاصّة التربية الوطنية والثقافة والشبيبة والرياضة وكذا الشؤون الدينية. هذا وإنّ مختلف التحركات التي تعبّر عن عدم الرضا التي رصدناها هنا أو هناك تدل على وجود نقائص في هذه القطاعات مع الأسف.
لذا فإنّ بريان أو المناطق الأخرى لا ولن تجد هدوءها ولا صفاءها إلاّ لمّا تكون هذه الجوانب التي تهمّ المواطن الجزائري عموما مأخوذة بعين الاعتبار والجدّية وبصفة مسؤولة.
بعد الترجمة رأيت من الضروري أن أضيف لها بعض الإيضاحات والتعليقات والتعقيبات نظرا لأنّي لما كتبت المساهمة باللغة الفرنسية لتصدر في نشرية أجنبية، كتبتها كوزير سابق وتجنبت الخوض في الخلفيات السياسوية أو السياسية للأحداث، لكن لما ترجمتها إلى العربية رأيت أنّها ناقصة نوعا ما، خاصّة وأنّ الأحداث كما أسلفت قد تطورت وعرفت تشعبات، ومضت عليها مدّة زمنية.
لذا أريد أن أؤكد أوّلا وقبـل كلّ شـيء أنّه يجب أن نضع هذه الأحداث في إطارها المكاني والزمني أي في بلدة بريان وفي سنة 2008.
ففي ذلكم الحين كانت لي اتصالات مع بعض الإخوان الذين فكروا في تنظيم لقاء حول التقارب بين المذاهب محليا خاصّة وأنّه كانت آنذاك ظاهرة برزت وعرفت تطورا في العالم صاحبتها مساعي حثيثة تدعو في أوّل الأمر إلى التقارب بين الثقافات ثمّ تطورت إلى الدعوة إلى التقارب بين الديانات المسيحية واليهودية والإسلام، تجندت لها أقلام وشخصيات بارزة، فنشأت عن هذه التوجهات فكرة محلية للتقارب بين المذهبين خاصّة الإباضي والمالكي. فلما قصدني هؤلاء الإخوان وخضنا في الموضوع رأيت من المفيد أن أجري معهم تحويرا على العنوان، فقلت إنّي أقترح عنوانا للقاء وهو: التعايش بين المذهبين المالكي والإباضي، وليس تقارب. لأنّنا في منطقة فيها حقيقة تعايش شبه تام، وبالتالي منطقة ميزاب يجب أن تؤخذ كمثل في الدراسة للتعايش، لأنّ التقارب وقع منذ زمان، والآن نعرف حقيقة التعايش في أوسع معانيه.
وهكذا انطلقت الفكرة وبدأت التحضيرات، وفجأة طرأت الأحداث المؤلمة والمؤسفة في بريان كما أسلفت في بداية هذا المقال، فعكرت الأجواء وأبطلت المحاولات، وحوّلت الأنظار إلى اتّجاه معاكس تماما. فما كان يخطر ببال أحد أيّ كان أن تعرف المنطقة مثل هذه التطاحنات وبالأخص مدينة بريان التي عرفت بالهدوء والتعايش حقّا منذ زمان وبالشراكة بين المتساكنين فيها سواء في الفلاحة أو تربية المواشي أو التجارة بل وهناك حتّى العلاقات العائلية بحكم الرضاع الذي كان معروفا لدى الجميع، وبالتالي يمكن اعتبار ما حدث في بريان هو استفزاز صراخ بل وفتنة كما أشرت في العنوان، إذ انطلق من أشياء تافهة وتافهة جدًّا ليتطور شيئا فشيئا ليصل إلى مستوى خطير حقّا لما استغلت الطائفية الدينية والنزعة العرقية لإذكاء نار الفتنة بين عناصر البلدة الذين كانوا إلى ذلكم الحين في وئام وتعايش وسلام. والحق إنّه لا أسهل لإشعال نار الفتنة وانتشارها من التوظيف الخبيث لهذه المكونات الأساسية للهوية الوطنية في الجزائر. ثمّ إنّ الرواسب والأضغان التي تستمر خفية في النفوس لتفعل فعلتها على مرّ الأيام، وقد تتفجر بعد مدّة خاصّة وأنّ مكونات مجتمعاتنا أصبحت تعيش في شبه عزلة وتقوقع ما دامت كثير من الوسائل مهيأة لها محليا. فبعد أن كان الشباب خاصّة  يتنقل من بلدته ليلتقي بأبناء بلديات أخرى في أحضان الجامعة مثلا أضحى يواصل الالتقاء والاحتكاك بنفس شباب بلدته أو منطقته سواء في الثانويات أو الجامعة المحلية ليتخرج في الأخير شبه عنصري حقّا، ولو أنّ تكوينه قد يكون ترقى. وما فائدة كلّ ذلك إن لم يكن للأخلاق والتربية الوطنية والمدنية نصيب في تكوين الأجيال الصاعدة لتصحيح هذه الاختلالات والقضاء على مثل هذه الرواسب.
وبالرجوع إلى الأحداث فقد قيل أنّه بمناسبة المولد النبوي الشريف هناك شباب طائش رمى محرقة نحو بنت كانت بصحبة أوليائها، هذا ما قيل أوّلا، ثمّ قيل إنّه تحرش بهذه الفتاة، ثمّ قيلت أقوال أخرى، وكلّ هذه محاولات للتغطية عن الفتنة التي أذكيت نارها لتعصف من الأساس بالفكرة، فنسفت بالتالي التعايش نفسه الذي كان معروفا في بريان.
هذا وإنّ مختلف الإشاعات التي روجت من طرف المغرضين قد أثارت حفيظة بعض الشبان الطائشين من كلتا الطائفتين من هنا وهناك من عرب وبني ميزاب كما يقال، فأصبحت الأمور تأخذ أبعادا أخرى من حرق الدكاكين ونهب السلع والتعدي على المارة إلى غير ذلك، وتطورت الأمور إلى السكنات وإلى التهجم على الأشخاص. فوقعت ما وقعت من خسائر مادية ومعنوية، وهذه هي بالتالي نتائج لتصرفات بعض العناصر اندسوا في الصفوف، واغتنموا فرصة التناحر والتنافر، وفرصة غالية مع الأسف هي المولد الشريف الذي كان دوما رمزا للتعايش وللسلام في ظل الإسلام. فكيف أصبح من أسباب الفتنة و بماذا؟ برمي محرقة، في حين أنّ الدكاكين المتواجدة عبر جنبات طريق السوق كان الكثير منها يبيع ويشتري هذه الأشياء المحرّمة قانونا. ولو كانت السلطة المحلية حازمة كما يجب أن تكون، فلربّما كانت منعت كلّ هذه الأسباب الواهية مادامت السلطة العليا قد أعلنت أنّ هذه المفرقعات محرّم بيعها وشراءها ومحرّم استعمالها. فتغاضي السلطة عن هذه المخالفات كان خطأ فادحا أوّلا وقبل كلّ شيء. ثمّ إنّ ضعف اليقظة وعدم اغتنام الفرصة لإيقاف التصعيد وعدم التدخل السريع للمصالح المختصة لفرض استتباب الأمن زاد الطين بلة، فأخذت الأحداث تأخذ أبعادا مأساوية حقًّا.
 فبمناسبة المولد الشريف عوض أن تكون هناك أفراح ومسرّات كما كانت العادة في بريان وغيرها من مدن ميزاب أصبحنا نعيش الروع والخوف في أتعس مظاهره. لذا وفي نظري دائما أقول إنّ هناك أمورا مدبرة في الخفاء لنسف كلّ أسباب الهدوء والطمأنينة في هذه المناطق وغيرها من المناطق الأخرى التي عرفت تذبذبا واستفزازات مع الأسف، تستوجب المصلحة العليا أخذها بعين الاعتبار ومعالجتها بسرعة وذكاء حتّى لا تأخذ أبعادا قد تكون خطرا على الوطن وتماسكه وأمنه خاصّة ونحن قد اكتوينا بنار الفتنة من قبل ردحا من الزمن، وأضحى لزاما علينا أن نبقى حذرين لكي لا نلذغ مرّة أخرى ولكي لا نؤتى من مأمننا كجزائريين وكمؤمنين خاصّة.
وبعد ذلك ظهرت مناشير وأعلنت مواقف بسرّية بواسطة الإعلام الآلي وغير ذلك من الوسائل العصرية، وبالطبع بأسماء مستعارة أو ملفقة، واتّهم من اتّهم فيها، واتّجهت الأنظار نحو أحد أعيان بلدة بريان وهو الأخ أولاد داود محمّد وهو من النشطاء ضمن المجتمع المدني، ومن الأعيان المرموقين للبلدة وللمنطقة، كما كان عضوا بارزا في المجلس الوطني الانتقالي إذ كان مقرر اللجنة المالية، وهو منصب حسّاس ومسؤولية خطيرة في تلكم الظروف العصيبة حقًّا، أسند له نظرا لكفاءته وقدرته ومكانته، فهو بالتالي ليس أبدا من النّاس الطائشين الذين قد يقدمون على مثل هذه الترهات والمزاعم التي ألصقت به مع الأسف، فأضحى متابعا ومصادرا من طرف قوات الأمن لما له من أجهزة وهواتف نقالة إلى غير ذلك، محاولين أن يثبتوا من خلال كلّ التحريات العلمية منها للدرك أنّه هو الدماغ المفكر والمحرك والداعي إلى الفتنة، وقد أودع السجن، والله يشهد ونحن نعرفه وكلّ المخلصين يشهدون أنّه بريء من كلّ هذا، وأن الطائشين والدافعين لمثل هذا هم عناصر مندسة تعمل في الخفاء. وهناك من كان معروفا زمانا إذ ندّدنا به أيام الفتنة الأخرى التي وقعت في غرداية وامتدت شراراتها الى بريان، وندّدنا بالذين كانوا يتاجرون ويبيعون ويشترون الأسلحة ولو مفككة تحت غطاء نقل البضائع، وغير ذلك. فمهما يكن فإنّ هذه أمور مضت ولكن الإشارة إليها مهمّة لأنها تكشف عن جانب آخر من العناصر الذين يعملون في الخفاء لضرب الاستقرار والساعين لاستدرار المنافع والإكثار من النفوذ وتقوية صفوفهم للسيطرة على النّاس البسطاء والضعفاء.
هذا مدخل للتعريف بالأجواء التي كانت سائدة وبالتالي من المغرض وما الغرض؟ إنّه السؤال الذي يجب أن يطرح دوما: من الدافع إلى هذه الأمور ومن المستفيد منها؟ أسئلة وأسئلة يجب أن تطرح في كلّ حادثة وفي كلّ مرّة إذ الذين يدفعون إليها هم أطراف تستغل سذاجة العناصر الشبانية خاصّة وحماسها وتعاستها وطيشها في بعض الأحيان، وهي التي مع الأسف تستفيد وتربح من الكثير من الحوادث لأنّها تتربع على عرش المجتمع ماديا ومعنويا وتتقرب بل وتركز نفسها بواسطة بعض أجنحتها في السلطة. هذه نقطة مهمّة جدا.
وتطورت الأمور وأصبحت في المحاكمات والسجن بعد التهم والشكوك. وكانت بالطبع تدخلات مختلف المصالح التي تعرف أو لا تعرف خلفيات الحقائق. وتدخلت كذلك أجهزة الدرك والأمن بمستواهم الضعيف أخلاقيا ومهنيا مع الأسف، كلّ هذا عمّق الجرح وأحدث الشرخ في بلدة بريان، فأضحت عناصر الأمن مرتكزة في المناطق أو في مفترقات الطرق وفي نواحي البلدة واتّخذ ذلك ذريعة لإرساء ثكنات ومراكز شرطة لعلّه بعد فوات الأوان. وكلّ هذا يدل على أنّ هناك مرامي كثيرة نحو هذه البلدة بصفة أخص ونحو الولاية والمنطقة بصفة عامّة. وعلى كلّ حال هذه حالة مؤسفة ومن أجل هذا سميت ذلك فتنة لأنّ بريان كانت هادئة وسكانها كانوا متعاطفين ومشتركين في التجارة والفلاحة والرعي ومنهم من له كذلك صلة أرحام وقرابة ورضاعة كما أسلفت، وبالتالي ليس من الممكن أن يحدث مثل هذا في بريان، خاصّة وأنّنا عندما نتصفح مختلف أحيائها نجد أنّ السكنات لا نفرق بين إحداها والأخرى، والمتساكنون من عربوبني ميزاب كما يقال جيران لبعضهم البعض. لكن ونتيجة لهذه الاضطرابات والاختلالات والأغراض وقعت كثيرا من الخسائر، واضطر البعض للهجرة من أحياء إلى أحياء أخرى والبعض الآخر من ناحية أخرى إلى هذه النواحي، وبالتالي عادت الأمور إلى بدايتها المؤسفـة وهي التجمع على أساس العنصر والانتماء والمذهب، وقد كانت هذه الأمور غير معـروفة وغير معتمدة البتة بهذه الحدّة.
وللأمانة نذكر أنّنا ولو كنا ننتمي إلى مذهب لكنّنا لم نكن نعرف أبدا الفروق البعيدة بين المذهب المالكي والإباضي بدقة ما دامت تتعلق بالأمور الغيبية. فآباؤنا رحمهم الله من هذه الطائفة أو تلك لم يكونوا يركزون على الاختلاف بقدر ما كانوا يركزون على التقارب والتعايش والحمد لله. هذا ما عهدناه وعرفناه. فلم نكن نفرق بين الإباضي والمالكي إلاّ ما نشاهده من رفع الأيدي عند تكبيرة الإحرام أو تحريك بسيط للسبابة عند التشهد، وأمّا في باقي الصلاة فالكل يسدل. أمّا الجديد والتطرف الذي حدث مع الفوضى التي وقعت في السنوات الأولى من زمن التعددية وانتشار النزعة الإسلامية المتطرفة وظهور السلفيين، وأمّا المظاهر الأخرى الغريبة مثل تشبيك الأيدي وكثرة تحريك السبابة وغيرها فهي من استحداث هؤلاء الأكثر شدّة والمتركزين في بريان. فمحاولة نسف كلّ عناصر الوئام والوحدة، كانت هذه إحدى أهدافهم ونتائجهم المؤسفة ولا تزال مستمرة.
هذا وبعد ذلك تأتي المناورات والمؤامرات والمحاكمات والأحكام بالبراءة في بعض الأحيان والسجن في بعضها، لكن المؤسف كلّه أنّه بعد كثير من الجلسات وكثير من المحاكمات في المرحلة الابتدائية ومرحلة المجلس في غرداية، صدرت أحكام بالبراءة فطلب نقضها والطعن فيها، وإلى اليوم لا تزال معلقة وبقي مصيرها مجهولا، ولسنا ندري إن كان لبعض الأطراف القريبة من السلطة دخل مباشر في إرجاء هذه المحاكمة والبت فيها، وهي التي من شأنها أن تحل السكينة والطمأنينة مرّة أخرى في بلدة بريان، وهذا مؤسف جدّا أن نلاحظه.
ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ كثيرا من الأطراف لها يد في هذا ولها فائدة من ورائها، ويمكن استشفاف ذلك من التدخلات المتعدّدة لممثلي الأحزاب والأطراف التي سعت لفك القضية أو المساهمة في الدفاع عن المتهمين بمقابل أو تطوعا، وهو ما يزيد المتتبعين والمخلصين أسفا أن تستغل أطراف مآسي مثل هذه لبسط أو كسب النفوذ والأنصار، وكذلك كان دأبهم مع الأسف في مناسبات أخرى وفي مناطق مختلفة من الوطن.
فما أحرى بأبناء بريان جميعا أو غيرها من المناطق التي هزتها أو قد تهزها مختلف الأحداث، سواء تلك التي لها دواعي معقولة ومقبولة أو تلك التي قد تفتعل لمسّ أمن وطمأنينة المواطنين وزعزعة أيّة منطقة أو الجزائر من وراء أيّة ذريعة، فحري بالجميع إذن أن يتفطنوا لمثل هذه المكائد وأن يتصدوا مجتمعين متراصين لإحباطها والمقاومة سلميا لإفشالها والضرب بصرامة علي يد كلّ المخربين للوطن والعابثين بقيمه والمستغلين لها لبلوغ أهدافهم الخسيسة.
فالخطر كلّ الخطر يكمن في استعمال الدين ومحاولة اللعب على الوتر الحسّاس وهو المذاهب أو بدرجة أقلّ اللهجات لإذكاء نار الفتنة بين فآت المجتمع وتأليب بعضها على بعض أو تعميق الشرخ أو ركوب موجة التيارات الجديدة والدخيلة الآتية من هنا أو هناك مهما كان قصدها، لأنّ المساس بالعنصر الصلب من مكونات شخصيتنا الوطنية وبخاصّة الدين هو بمثابة المسّ بالجزء الصلب من الذرة تتفجر القنبلة به فتكون الكارثة لا قدّر الله.
ومن جهة أخرى يجب على الجميع أن يتابع تطور الأساليب الخسيسة التي يسلكها الأعداء وبخاصّة ضد بلداننا العربية والإسلامية. فبعد تحررها من ربقة الاستعمار لم يهنأ لهم بال بل عمدوا إلى الصراعات العرقية لتشتيت شملها، ثمّ في مرحلة أخرى لجأ الخصوم إلى استغلال النعرات العرقية والطائفية والمذاهب الدينية للتفجير من الداخل، وهو الأخطر، فأصبح أبناء الوطن الواحد في صراع مدمر عقيم عوض الاعتناء بأوطانهم لتنميتها وتوطيد أركانها واستغلال كلّ الفرص لضمّ صفوفها، فأضحى الاقتتال والتناحر المشهد المخزي، والتقهقر عوض النهوض والرقي، خاصّة وأنّ الله وهب هذه الأوطان مختلف الموارد وعناصر الثروة، إلاّ أنّ التخلف والعمالة للأجانب والجشع قد أدّى إلى تردي الأوضاع مع الأسف. وما حالة العراق الشقيق مثلا والصراع الدائر فيه بين الشيعة والسنّة والعرب والأكراد وغيرهم إلاّ مثل حي لِما آل إليه بلد كان الرائد في الحضارة والتقدم العلمي، بغضّ النظر عن النظام الحاكم. فقد أصبح مهدّدا حقًّا بالانقسام والتشرذم على أساس الطائفية والمذهبية. والحديث قد يطول عن حالات البلدان الأخرى وبخاصّة العربية الإسلامية وما تعانيه من تحامل شرس ضدّها بدعوى مكافحة الإرهاب، وكأنّ ما قامت وتقوم به هذه القوى المسيطرة على العالم، ومن ورائها الصهيونية، من تعدّيات واستفزازات ضدّ كلّ ما يمتّ إلى الإسلام بصلة بل وقمعه يعتبر أمر طبيعي في حين أنّه هو الذي أثار كلّ هذه الردود العنيفة دفاعا عن الذات ومحاولة إثبات لها.
لكن بفضل الوعي الوطني الرفيع الخالص والمخلص سنجنّب نحن جميعا مناطقنا كافة ووطننا الجزائر عموما ما يترصّدها من الدسائس والمؤامرات الخبيثة والدنيئة، ما دمنا قد اكتوينا قبل اليوم بنار الفتنة، واستخلصنا منها كافّة الدروس المفيدة، وسنستمر في المساهمة في تنمية الجزائر وازدهارها، ودعم أمنها ووحدتها، وعلو شأنها ومكانتها بين الأمم، وما ذلك على أهل الهمم العالية بعزيز ولا ببعيد المنال.

العطـف يوم: فاتح ربيع الأوّل 1434هـ  
الموافـق ليوم: 13 جانفي 2013م

 فهرس المقالات :


حول أحـــداث غردايـــة

عبدالوهاب بن الشيخ عبدالرحمن بكلي-وزير سابق
إنّ هذا المقال هو أيضا ممّا لم يسبق نشره على صفحات اليوميات. ونظرا لأهميته كمحاولة لتناول الأحداث من زاوية تحليلية ونظرة واقعية ميدانية، فقد تمّ إدراجه ضمن المقالات المنشورة في الطبعة الأولى للكتيّب "انطباعات وأفكار". وهو كما يلي:
لقد شهدت غرداية حوادث مأساوية ومؤسفة في شهر أكتوبر 2004 ميلادي وقبيل شهر رمضان المعظم 1425هجري.
لقد كان السبب الأولي هو "زدمة" بل الصدمة التي واجهها التجار جراء التدخل العنيف للجنة المتعددة الأطراف والمكلفة بمراقبة الحركات التجارية، منددين بمعاملاتها الانتقائية، خاصّة وأنّهم عبّروا غير ما مرّة عن استعدادهم للخضوع لكلّ الإجراءات القانونية، إذ أنّهم من المنضبطين، لهم عناوين معروفة وسجلات قانونية، ويؤدون الضرائب المستحقة رغم ما يعانونه من صعوبات جراء ما في الوظيفة التجارية من فوضى مستحكمة وبخاصّة عدم التزام تجار الجملة بالقوانين، ومن قبلهم المستوردين الذين يمتصون دماء صغار التجار المواجهين لكل التفتيشات، والذين تسلط عليهم أنواع العقوبات وحتّى الحجز لعدم استيفاء بعض الشروط المفروضة من طرف القانون، عكس التجار الموازين الذين يتكاثر عددهم يوما بعد يوم أمام أعين المسؤولين، إن لم نقل مشجعين من طرف جهات لها نفوذ مع الأسف.
ولقد كان لضجر التجار صدى وتعاطف لدى المواطنين، فحاولوا صدّ هذه اللجنة عن عملها، وكانت الأمور عادية كما يقع في كثير من نواحي القطر، إلاّ أنّ تصاعد حركة الاحتجاج بدأ يظهر في التجمهر، ومحاولة سدّ الطرقات، وشل حركة المرور، والمطالبة بحضور المسؤولين الولائيين، ثمّ انتقل إلى اعتماد الوسائل الاحتجاجية الني دأب عليها المواطنون عموماً في مناطق أخرى، ظنا منهم أنّ مثل هذه التصرفات أضحت الوسيلة المثلى للتعبير عن الغضب بل ولافتكاك الحقوق، والحصول على إعفاءات أو تخفيضات أو تعويضات. لكن قوّة الاحتجاج واستغلال الموقف سياسويا عقّد الأوضاع، ممّا أدّى بالسلطات الولائية إلى الاستنجاد بالقوة العمومية لمكافحة الشغب ومحاولة استتباب الأمن، مستعملة القنابل المسيلة للدموع.
ودون الخوض في تفاصيل الأحداث فإنّ بعض التصرفات العشوائية والاستفزازية قد أججت غضب المواطنين، فصار تحديهم يقوى والتصدي له يأخذ أبعادا مأساوية. وبالفعل فقد اتجه بعض المواطنين إلى تخريب المنشآت العمومية مثل مصلحة البريد والمياه وتحطيم كلّ ما أتت عليه أياديهم في الساحات العمومية. وهكذا أصبحت المواجهة سيّدة الموقف واستدعت الزيادة من قوات التدخل لفرض النظام، فانجرت عن كلّ ذلك تجاوزات من هنا وهناك واعتقالات، بعد ما تضرر كلّ من المواطنين وقوات مكافحة الشغب.
هذا ولقد قدّمت مجموعة أولى إلى المحاكمة في ترقب وجو مشحون، وكانت لأحكام العدالة ردوداً مؤسفة ولو محدودة.
وإنّنا أمام هذه الأوضاع التي لم نعهدها في هذه المنطقة الآمنة والأصيلة لا يسعنا إلاّ أن نتساءل عن الأسباب والدوافع العميقة لمثل هذه التصرفات الغريبة حقّا عن تقاليد و سلوكات أبناء هذه المنطقة. وبالفعل لقد حدثت أنواع من الاصطدامات قبل هذه، لا تقل ألمًا، سواء في غرداية أو متليلي أو بريان أو المنيعة أو الضاية أو بني يسجن أو أخيرا في مليكة. ولئن عبّرت كلّ واحدة عن حالة أو كانت انعكاسا لمعاناة معيّنة إلاّ أنّها بقيت كلّها شبه عادية لِما أصبحا نألفه من مظاهر وتصرفات للتعبير عن الغضب والاستياء هنا وهناك، وعن عدم الرضا بصفة عامّة، ولو أنّنا في بعض الأحيان نستشف من ورائها بعض التصرفات والاستغلال الذي يرمي إلى زعزعة الاستقرار أو تعريض طائفة لغضب أخرى.
فلئن كانت الأحداث المختلفة تتميّز بالاصطدام عادة بين الطائفتين، مع الأسف، فإنّ المثير للانتباه والباعث على دراسة معمقة للأسباب، هذه المرّة، هي تلكم الهجمة الشرسة على الممتلكات العمومية، والنداء بشعارات مناوئة ومعادية للسلطات المحلية، بلدية وولائية. لقد أثارت حقًّا دهشة وذهولا لدى كثير من العقلاء والمتتبعين لسلوكات أبناء هذه المنطقة المشهورة برصانتها وتعقلها وتعاملها الحضاري مع مختلف الأحداث. لكن الدارس المتمحص لِما جرى أخيرا في غرداية كما أسلفنا، والتهجم على منشآت الدولة، والتعريض بالمسؤولين بكتابات في الواجهات والجدران، ليدرك مدى التذمر الدفين والانفجار الأليم.
ولإدراك الأسباب الخفية للصراعات التي طفت على ساحة الأحداث، لابدّ من الرجوع إلى الماضي البعيد والقريب على حدٍّ سواء. وبالفعل فإنّ الصراع الذي كان يحدث من قديم بين الطوائف وبين الميزابيين والشعانبة مثلا كان مرجعه ضعف المستوى، والإحن والتطاحن الذي عرفته مختلف جهات القطر الجزائري عموما، وإلى ما حاول المستعمر استغلاله لإبقاء العصبية والحزازات حتّى يستطيع أن يحكم قبضته على أبناء المنطقة.
وبالنسبة للجهة لا بأس أن نشير إلى أنّ الصراع كان موجودا حتّى بين الميزابيين أنفسهم، بين الصف الشرقي والصف الغربي. وفي فترة من الزمن، استعان الصف الشرقي بعرش المذابيح الذين كانوا أساسا من السكان المجاورين في للْماية، كما استعان الصف الغربي بالشعانبة المجاورين وفي متليلي خاصّة، ذلك لأنّ لهؤلاء وأولئك دراية في المقارعة بالأسلحة، خلافا لأهالي ميزاب الذين لم يكونوا من المتقنين لفنون القتال. ومع تمركز الاستعمار في المنطقة اتخذ من هؤلاء المحاربين كلّهم عناصر عزّز بهم وجوده، واعتمد عليهم للتوغل في أدغال الصحراء والاستيلاء على ما تبقى من الجنوب الجزائري. ولقد استمر هذا التعامل مع القوات الغازية كما نجده في مناطق أخرى من الوطن، لكن كمصدر للرزق، وبخاصة في وقت حرج لم يجد الجزائريون وسيلة لكسب قوتهم سوى الانخراط في صفوف الجيش الفرنسي آنذاك. ولحسن الحظ، لقد ساعد تواجد مثل هذه العناصر المتقنة لاستعمال السلاح على تدعيم الثورة من طرف بعضهم لمّا استيقظ فيهم الضمير الوطني ولبّوا نداء الواجب المقدس.
إنّ هذه اللمحة الخاطفة يمكن أن تعين على فهم بعض الأوضاع التي سادت فيما بعد، وتفسّر ما سيحدث في تطور العلاقات بين الميزابيين وإخوانهم من المتساكنين.
إنّها إذن تراكمات عدّة وأسبابها متنوعة، لها جذور في الماضي وتعقيدات مستحدثة.
ولعلّ من الأساليب الأكثر ضررا وتأثيرًا هو ما يوصف بالتوازن الذي دأب على أخذه بعين الاعتبار، خطأً، كلّ من تعاقب على السلطة، وتوظيفه لاستغلال الطائفتين أو الطوائف المتعايشة منذ سالف العصور، بمدّها وجزرها، لكن دون شرخ عميق يعيق مواصلة التعايش والتبادل المفيد للجميع، خاصّة وأنّهم كانوا يعيشون في عفوية تامّة واشتراك أخوي في الفلاحة والرعي والحرث والمتاجرة، كما كان لبعض العائلات علاقة رضاعة ونسب بدون أية عقدة ولا خلفية.
ولئن لم يكن الاختلال كبيرا في القِدم، فإنّه قد شهد مؤخرا استغلالا متزايدا مع الأسف من حين لآخر. هذا وإنّ ما صاحبه من مزايدات وانزلاقات بل وانحرافات في التعامل قد أثّر أيّما تأثير على العلاقات.
وبالفعل فإنّ العلاقات إبّان الثورة قد خيّمت عليها ظلال من هذه المعطيات، وكان للتوتر الموجود كبير الأثر حتّى في التعامل مع عناصر الثورة وجبهة التحرير الوطني. ذلك أنّ المنطقة كانت تتجاذبها جهات متعددة مع اتساع رقعة الثورة المباركة نحو الجنوب، ممّا ستصبح الولاية الخامسة والرابعة وجيش الصحراء، وحتّى من عناصر بن لونيس. ولم تستقر الأوضاع إلاّ بعد استحداث الولاية السادسة وعمل شاق للمسؤولين عليها للسيطرة التامّة على مجريات الأحداث والقضاء على فلول بن لونيس وأتباع جناح مصالي.
ولقد كان من جهة أخرى لكثرة الجهات المدعية للشرعية وتمثيل جبهة التحرير الأثر البليغ في تردّد الميزابيين في الاندفاع مع هذه الجهة أو تلك، لكن العمل الثوري كان مستمرا في سرية شديدة وحذر كبير، خاصّة وأن بعضا من المقبوض عليهم قد ضعفوا تحت وطأة العذاب، فانكشف أمر بعض المناضلين، ممّا عمّق شعور الحذر، وأدّى حتى بالقيادات إلى اعتماد مجالس منفردة لكلّ من الطائفتين درءًا لكلّ محذور.
فإذا ما كان للحماس الثوري وللروح النضالية الأثر البليغ في توطيد اللحمة إلاّ أن بعض المواقف المنحازة تركت آثارا بليغة في علاقات الأخوة في المنطقة.
وللأمانة والتاريخ لا بأس أن نذكر أن بداية الاستقلال شهدت جهودا حثيثة لمناضلين مخلصين لتقريب الإخوة داخل دائرة غرداية، بحدودها الجديدة، أي بعد ضمّ بلدية متليلي إلى دائرة غرداية القديمة، فعاشت هذه أجواء من الأخوة المنعشة، بفضل نشوة الاستقلال والفرحة العارمة. فكانت اللقاءات ومحاولة مسح الآثار السلبية والدعايات المغرضة حول الميزابيين وسلوكهم إبّان الثورة ومدى مشاركتهم فيها، وكذا تعامل الجنود الشعانبة المتعاونين مع الحرْكة. ومن أبرز مظاهرها موافقة كلّ المندوبين على رأس بلديات الدائرة على اختيار أحد إخوانهم من الشعانبة لرئاسة بلدية مقر الدائرة، وقد بقي في المسؤولية حتّى صدور القانون البلدي وإجراء الانتخابات المحلية الأولى سنة 1967.
ولقد عرفت المنطقة هكذا جوا سليما لبعض الوقت إلاّ أنّ تطورات الأوضاع وتسرعها قد استغلها كالعادة بعض المغرضين لإذكاء النعرات من جديد. ولعلّ أولى مظاهرها هو ما افتعل من أحداث أيام الرئيس الثالث لدائرة غرداية في السنة الثانية للاستقلال إذ كان من أبناء المنطقة من الميزابيين ومن كبار المناضلين في صفوف الحركة الوطنية وعضوا في المنظمة السرية، ومن المساجين المحكوم عليهم بالإعدام في بداية الأمر ثمّ بالمؤبد بعد الاستئناف، ولم تهدأ القلاقل إلاّ بطلب هذا المسؤول الرحيل والعودة إلى العاصمة حيث من يعرفونه ويعترفون له بنضاله الوطني وكفاءته العالية.
ومن المواقف السلبية كذلك ما عمد إليه بعض المجاهدين والمناضلين من نكران للخدمات الجليلة التي قدّمها إخوانهم الميزابيين، في حين أنّهم زكوا كلّ من قام من أبناء عمومتهم بعمل، ولو متواضع، وأضفوا عليه صفة الجهاد أو النضال، على أنّ الميزابيين عموما لم يكونوا السباقين في تسجيل أعمالهم في الثورة، جليلة أو متواضعة، لأنّهم كانوا من الذين يؤمنون أنّ الجهاد كان في سبيل الله وللوطن، لا يرون ضرورة للتبجح به أو استعراض للعضلات، كما أنّهم لا يرجـون منه لا جزاء ولا شكورا، ولا يرتقبون اعترافا ولا نيشانا ولا منحة، أو استفادة من الإعانات المادية التي رصدتها الدولة للمجاهدين، رغم تقدّم سنّهم، وضعف صحتهم، واحتياج بعضهم. لكنّهم لما تيقّنوا أنّ السبيل الوحيد لتخليد أعمالهم، وتسجيل مساهماتهم، والحصول على حقوقهم كالآخرين لا يتم إلاّ عن طريق الحصول على تلك الوثيقة، حاولوا استدراك الأمر لكن لم يتحقق لهم ذلك إلاّ بصعوبات.
لقد كان احتقار مساهمة الميزابيين في الثورة المباركة مبالغا فيه، ذلك أنّ المجاهـدين والمناضلين في المنطقة لم يكونوا على علم بذلك، بل وليس في وسعهم الإحاطة بمشاركة الميزابيين، خاصّة وأنّهم كانوا منبثـين في كامل نواحي القطر الجزائري، وعملوا بكلّ إخلاص وتفان وسرية وجدّية مع كثير من المجاهدين المرموقين.
وإذا ما تطرقنا إلى الاعترافات بالنضال والجهاد، فإنّنا نسجل أنّ من عيوب الطريقة المعتمدة إرجاعها لكلّ مواطن إلى ولايته ومقر مولده، في حين أنّ الجهاد أو النضال كان أحرى أن يعترف لكلّ من قام به في الجهة أو الولاية أو المنطقة  التي ساهم فيها، ذلك لأنه معروف هناك حقّا، وعلى صلة بمن ساهم معه في الجهاد أو النضال.
ورغم المحاولات المتعددة للعثور على رفاقهم في الكفاح، لم يتمكن الكثير من الميزابيين من الحصول على الإشهادات اللازمة لتكوين ملفاتهم، هذا إن توفروا على الوثيقة الواجب ملؤها، ذلك لأنّ رفاقهم إما قد استشهدوا أوقد توفوا -رحمهم الله-، أو غيّروا مقرات إقامتهم أو هاجروا، أو ببساطة قد تنكروا لهم لسبب أو لآخر.
لقد كان إرجاع الكثير من الميزابيين إلى مواطن ازديادهم سببا في الصراع مع من أوكلت لهم مهمة متابعة ملفات الاعتراف بالجهاد أو النضال، وكان جهل هؤلاء لحقيقة مساهماتهم هنا أو هناك مدعاة للرفض مع الأسف، وذلك بخلاف إخوانهم المتساكنين الذين يوجدون كلية أو تقريبا في المنطقة ممّا سهل لهم تسوية أوضاعهم، فاستفاد حتّى من كان مشكوكا في ماضيه، من تعاطف مقربيه عكس الآخرين من الميزابيين.
ولقد امتدت عمليات الاعتراف فشملت حتّى من كان يتعامل مع القوات الاستعمارية، بدعوى ممّن كانوا يشرفون على عملية الاعتراف، أنّ مثل هؤلاء هم ممّن طلب منهم المكوث ضمن مكاتب أو صفوف العدو لإمداد المجاهدين بالسلاح أو المعلومات. ولقد استفاد أيضا من شرف الجهاد أولئك الذين التحقوا بصفوف النضال في أواخر 1961 لما لاحت في الأفق بشائر الاستقلال، ومنهم من كان شارك في معارك ضدّ المجاهدين مثل معركة مليكة حيث كان قادتها فرنسيون، أمّا الجنود فمن الجزائريين وأبناء المنطقة.
وهكذا كان حشر وإدماج لإخوانهم في حين حرم الميزابيون من الاستفادة بمثل هذه الاعترافات ومن الأوسمة التي لا تزال توزع إلى اليوم أي بعد نصف قرن من اندلاع الثورة.
إنّ هذه الوضعية الحرجة سهلت الاتهامات العديدة التي أصبحت تستهدفهم حتّى عقدتهم وعقدت بالخصوص أبناءهم الذين لم ينفكوا يسألونهم عن ذلك وبإلحاح. فلم تكن لتجدي الأعذار المقدمة ولا التبريرات ولا التفسيرات المتعددة حول ما اكتنف عملية الاعتراف بعظيم مشاركتهم، بوطنية وإخلاص في الثورة المباركة، وفي كثير من النواحي التي تواجدوا فيها. وحقّا لقد كان هذا شأنهم وشأن آباءهم وأجدادهم وفي كلّ الحقب والفترات العصيبة التي عرفتها الجزائر، عمل بجد وإخلاص، وفي السرية والحذر التام، ابتغاء وجه الله ونصرة للوطن.
ومع الاستقلال، وبسط جبهة التحرير الوطني نفوذها كحزب وحيد، منظّر ومسيّر وحاكم للبلاد، برز استحواذ آخر عليه لنفس الطائفة، وإقصاء مقصود للميزابيين -إلاّ قليل ممّن لم ولا يمكن تجاهله- وذلك بنفس الدعوى، أي عدم المشاركة في الكفاح الوطني.
ومعلوم أنّ كلّ من ولد قبل 1942 كان لزاما عليه أن يثبت نظافته إبّان الثورة ليتمكن من الانخراط في الحزب ويظفر بالتالي بالترشح للمناصب المختلفة، إن على مستوى البلدية أو الولاية ثمّ بعد ذلك للمجلس الشعبي الوطني.
وإذا ما أَضفنا إلى ذلك التوجه الرسمي آنذاك للدولة والحزب وهو الاشتراكية أو النزعة التقدمية كما كانت تدعى، فإنّنا نفهم مدى الاتهامات التي رمى بها المستحوذون على زمام الأمور إخوانهم الميزابيين مع الأسف. إنّهم كانوا ينعتونهم بالرجعيين وبالبرجوازيين والرأسماليين لما كان يشاع عنهم أنّهم غير راضين بالاشتراكية لأنّها مقتبسة من الأنظمة الشيوعية التي تحارب الدين أساسا، ذلك لأنّ لهم أملاكا، وأنّ لهم من الحركات التجارية والخدماتية الكثير، على عكس إخوانهم المتساكنين الذين كانوا، حقا في بداية الاستقلال أقل منهم يسرا، مع أنّ الذين كانوا منهم أثرياء ومتمولين كالميزابيين أو أكثر، لم يقع إقصاءهم لا من الحزب ولا من المناصب. وللحقيقة والإنصاف كان الميزابيون أقرب إلى النظرة الاجتماعية في حياتهم وممارساتهم لما يعتمدونه من تكافل اجتماعي وتضامن أسري أكثر فعالية من الذين يدعون الاشتراكية ولا شيء من سلوكا تهم يزكي ذلك.
وإلى جانب كلّ هذه النعوتالمثبطة والمعقدة كانت التحالفات تعرف تشكيلا تلو التشكيل، تبعا للمصالح والظروف والملابسات السياسية. وإذا ما تتبّعـنا عن كثب تطورها منذ فجر الاستقلال إلى استحداث الولاية سنة 1984 يمكننا تصنيف ذلك كما يلي:
¨       غداة الاستقلال كان التكتل على أساس كتلة الشعانبة الذين هم من متليلي أو جاؤوا منها واستقروا في سهل وادي ميزاب، وكتلة الميزابيـين التي كانت تضم كلّ الآخرين بما فيهم بني مرزوق والمذابيح ممّن سكن منطقة غرداية والضاية التي كانت جزءا من بلدية غرداية.
¨       وعند إعادة هيكلة الحزب حوالي سنة 1968 برز توجه جديد تقتضيه المرحلة لضم أكير عدد إلى صف الشعانبة نظرا للأبواب المفتوحة أمام عدد جديد هام سينضم إلى صفوف الحزب، فأضحى التكتل على أساس العرب وبني ميزاب، لينضم هكذا كلّ من بني مرزوق والمذابيح إلى الشعانبة ليكونوا كتلة أكثر عددا لمواجهة العدد الذي قد يلتحق بالحزب من غيرهم، وذلك دوما للتصدي لهم واستعدادا للترشيحات وغيرها.
¨       وعند إنشاء الولاية سنة 1984 في غرداية وقدوم عدد هام من الموظفين والإطارات إليها من باقي مناطق القطر، تطور التكتل ليصبح على أساس مالكي وإباضي ليقوى الصفّ الأوّل بالوافدين لأنّهم ليسوا إلاّ من المالكية، ويتمّ حصر الصف الثاني في الإباضية وهم نفس الميزابيين.
إنّ هذا التكتيك قد أتى مع الأسف أكله خاصّة وأنّ اللهجة والتقاليد والسلوكات فيها ما قد يعين على هذا التمايز، ويجعل الكتلة الأولى التي تشكلت في الختام أكثر تقاربا بينها ومتمايزة عن الكتلة الإباضية. ولم يشذ عن هذا حتّى بعض كبار المسؤولين في القطاعات المختلفة، والحال أنّهم للجميع ولا حق لهم في الميل إلى طائفة دون أخرى على أساس عاطفي أو غير موضوعي لأنّهم يمثلون السلطة وهو ما يوجب العدل في المعاملة مع كافة المواطنين.
لقد كان من بين الأهداف المتوخاة كما أسلفنا السيطرة على هياكل الحزب ومن ثمّ التحكم في الترشيحات لمختلف المجالس والهيئات. وبالفعل لم يسمح بالترشح للأقلية من المناضلين الميزابيين إلاّ لمن هو ضعيف نوعا ما أو لا يحرك ساكنا، أو من الأتباع إن لم نقل من الأذناب. وكلّ عنصر حيوي، له مقدرة وجرأة على منافسة المسؤولين آنذاك وبخاصّة في الحزب، كان مصيره الإقصاء تحت أيّ ذريعة ولأتفه الأعذار. ولقد كانت الهياكل الحزبية تحرص في تشكيل القوائم المقدمة للانتخاب على إقحام كلّ من تتأكد منه أن سيكون أداة طيّعة لقضاء المآرب عند تسلّمه المهام بعد الفوز في الاستحقاق.
ونظرا لكون أغلبية الأصوات عند الميزابيين وأنّ تصويتهم كان يتّسم بالكثافة والانضباط فقد كان المسؤولون في الحزب يضعون عددا محدودا منهم ليبقوا على عدد من المقاعد للمتساكنين. و عبثا حاولوا كذلك اختيار عناصر من الميزابيين مغضوب عليها في المجتمع أو حتّى من النساء، فلم ينجحوا في مسعاهم بل بوغتوا بالتصويت عليهم على مضض ليكملوا القائمة المطلوبة بأضعف العناصر، تعبيرا عن عدم رضاهم على القائمة المفروضة عليهم بل وعن الاحتقار الذي غدوا ضحايا له.
إنّ هذه التصرفات من طرف المسؤولين في الحزب كانت ولمدة طويلة عدائية تجاه من يشتم فيه نشاط أو جرأة في طرح القضايا الحسّاسة، فلم يسمح لأيّ من الميزابيين بالإشراف على منظمة من المنظمات الجماهيرية التابعة للحزب. وفي شبه ترضية وعمل تكتيكي أسندت أمانة الاتحادات المهنية لهم، نظرا للعدد الهام من الإطارات المتواجدة فيها، وعدم حساسيتها في المجال الحزبي. وبعد افتضاح الأمر، وفي محاولة محتشمة، أقحم في مكتب المحافظة للحزب عنصران مسالمان، واحد عن المصلحين وآخر عن المحافظين. ونظرا إلى أنّ التأثير الفعال للحزب بدأ ينقص ،لم تأت هذه الإستراتيجية أكلها، خاصّة وأنّ الأوّل قد توفي في حادث أليم وهو في مهمّة حزبية إلى عاصمة الجنوب ورڤلة.
لقد عانى الميزابيون كثيرا من العناصر التي استحوذت على الحزب ومن مواقفهم التهجمية في مجالات عدّة، فلم تسلم من ذلك لا اللهجة المحلية ولا كتابات العناوين بها، ولا الطاقية البيضاء التي اشتهر بها أبناء المنطقة، ولا السراويل التقليدية التي يفضل لبسها عناصر الكشافة الإسلامية الجزائرية، إلى غير ذلك من المضايقات التافهة التي تنم مع الأسف عن نوايا ضعيفة، القصد من وراءها إخضاعهم والسيطرة عليهم، وبعبارة مجملة تعقيدهم لصدّهم عن منافستهم أو احتلال مراكز ربّما هم أحرى بها منهم وأجدر.
لقد توالت هذه التعاملات، ولا تمر قضية من القضايا الهامّة إلاّ وحاولت نفس الأطراف استغلالها بما يعزّز سيطرتها ويزيد في استفزاز إخوانهم، ودائما بنفس الخلفيات والأغراض.
وللتوضيح نتطـرق إلى بعض القضايا:
لعلّ أهمّها هي الثورة الزراعية وتطبيقاتها. وبالفعل فإنّ بداية الإجحاف كان في تحديد عدد النخيل والدخل الأدنى لإخضاع المواطنين المالكين أو العاملين للتأميم. إنّه تسعة عشر نخلة وتسعة آلاف دينار.
أما الغبن الكبير فهو في تحديد عدد النخيل كما سبق ذِكره، وكأنّنا في ناحية من النواحي المنتجة بقوة وكثرة ووفرة  للتمور، وبالتالي ذات طابع نفعي واقتصادي، يدر دخلا وربحا معتبرا على أصحابها، والحال أنّنا في منطقة مما تسمى بالواحات.
إنّ الواحات عموما وفي غرداية خاصة هي أشبه ما يكون بركن للراحة والاستجمام، ولمّ شمل العائلة الذي لا يمكن أن يتحقق إلاّ هناك، كما أنها مكان لقضاء مآرب كثيرة مثل الغسيل العائلي، وتربية النشىء والرعيل الصاعد على خدمة النخيل ومحاولة الحفاظ عليها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الدارس لأوضاع مثل هذه البساتين الواحاتية الصغيرة المساحة، والمشتملة على مساكن بسيطة، تشكل في الحقيقة عبئا، فهي بالتالي أبعد ما تكون عن الفائدة والاستغلال، بله المردودية الاقتصادية. ولولا الإمداد الذي يأتيها من مداخل أخرى، ولو بسيطة، من النشاطات الأخرى خارج المنطقة، لَما تمكن أصحابها من الاستمرار في إحياءها وصيانتها والمحافظة عليها.
ومن الناحية المعنوية تشكل مثل هذه القطع في الواحة إرثا ثمينا، ورمزا يسعى مالكوه للحفاظ عليه ولو أدّى بهم إلى الاستدانة. ولا يتصور أي كان أن يتخلى عنه مهما كلّفه ذلك من أتعاب. فمجرد استراحة الأهل ولمّ الأبناء فيها وعدم تركهم يتسكعون في الطرقات، والفرحة التي تغمر الجميع بممارسة بعض الأشغال فيها، وجني بعض الثمار والتمور من طرفهم رجالا ونساء وأبناء، كلّ ذلك يعتبر أسمى مظهر للسعادة والغبطة التي تنسي كلّ الأتعاب والهموم.
ولأجل ذلك و غيره، يعتبر التأميم لمثل هذه البساتين والقطع الصغيرة والمشتملة على هذا العدد الضئيل من النخيل ذي المردودية المتفاوتة، تبعا لنوعيته، صدمة حقيقية، وتجريدا من أعزّ الممتلكات رغم تواضعها. وبالفعل فقد أدّت تلك التأميمات بالكثير إلى الإصابة بأمراض مزمنة وصدمات قلبية أودت بحياة البعض منهم مع الأسف .
ولقد اعتبر مالكوا هذه الواحات وأغلبهم من بني ميزاب، أنّ هذه العملية كما تمّ تطبيقها مغرضة، استهدفتهم كتصفية لبعض الحسابات، خاصّة وأنها أسندت في الاستفادة إلى من كان يتربص بهم ويتوعدهم، فصدقت هكذا الإجراءات الإدارية ما كان يتقول من قبل. وعبثا حاول كلّ من شملته العملية أن يطعن أو يحتج لضعف مستوى دخله، رغم ما حدّد بتعسف كما سبق ذِكره. وهكذا مسّت العملية الكثير ظلما، وكأنّ المنطقة منطقة إنتاج. ولم تراع فيها حتّى نوعية التمور إذ الفوارق شاسعة بين الواحدة والأخرى.
وإضافة لهذا هناك الكثير ممّن تصدى للفلاحة وحاول بمجهودات جبّارة إحياء الواحة، أو إعادة غرس أنواع من النخيل، لكنّه قد صدم كذلك بالتأميم لعدم استيفاءه المستندات القانونية، نظرا لضعف الإدارة آنذاك وعدم قدرتها على التحكم في الأوضاع الإدارية أمام مثل هذه الحالات المستحدثة.
إنّ كلّ هذه الممارسات وما صاحبها من غطرسة وتسلط من طرف الإدارة والهياكل الحزبية وضباط الثورة الزراعية، قد زاد إحباط المواطنين الذين لم تكن لهم مقدرة على مواجهة السلطات ومختلف وسائلها المستحكمة. هذا وإنّ محاولة التصحيح لبعض الأوضاع بعد مدة قد اصطدم بالحالات المستعصية التي أفرزتها التطبيقات المجحفة، فلم تستطع الجهات المعنية أن تعيد الأمور إلى نصابها والأملاك إلى أصحابها، فازداد الشعور بالحڤرة والحيف.
وبعد هذه العملية المؤسفة جاءت قضية الأراضي الصالحة للبناء والغير مستعملة، لضمها في الاحتياطات العقارية لتشكل مصدر آخر للتسلط والتصفيات الظالمة. ونظرا إلى أنّ المالكين لمثل هذه الأراضي هم الأغلبية من بني ميزاب فإنّ استهدافهم كان بنفس الغطرسة والتسلط، فنال المعنيين كثيرا من التجاوزات في التطبيق. ولم تراع في ذلك حتّى ما كان يسمى بالاحتياجات العائلية المعفاة من الإدماج.
لقد عرفت المنطقة قلاقل بسبب هذه الممارسات وأدخل من أدخل السجن، ولم تهدأ الأمور إلاّ بعد اتخاذ السلطات المحلية لبعض التدابير، مثل بناء مؤسسة تربوية تكون حاجزا وفيصلا بين المتنازعين المتصارعين. وبالفعل فقد استغلت هذه الظروف من بعض المتساكنين للسطو على الأراضي البيضاء لبني ميزاب بمختلف الدعاوي مع الأسف، ممّا أبان عن سوء نية مبيتة، وتواطؤ محلي من بعض السلطات، فتركت هذه العملية آثارا بليغة ورسخت بدورها الشعور بالحيف والتسلط، واستغلال النفوذ، والتعسف في تطبيق القوانين.
إنّ هذه التصرفات والمضايقات، وهذه السلوكات بما فيها من البيزنطية أحيانا، كانت مصدر قلق وضجر وبخاصّة لدى الشباب، إلى درجة أنّها قد عقدتهم، فجعلتهم ينظرون إلى السلطة ومن يمثّلها أو يدعي ذلك بنظرة السخط والازدراء. وعبثا حاول عقلاء المنطقة وأعيانها التمسك بالرزانة والاعتدال أمام كلّ العناصر المغرضة، ذلك أنّ التراكمات بدأت تفعل فعلتها، وجعلت الشباب يميلون إلى التطاول على آبائهم وكبارهم، ويرون في مسالمتهم ضعفا واستكانة، وخوفا لا مبرّر له، خاصّة وأنّهم تأثروا بما عايشوه في معاشرتهم الكثير من الشباب في الجامعات والميادين الاقتصادية، وبما تفتحت عليه أعينهم في صفوف الخدمة الوطنية، واقتبسوه من إيجابياتها وسلبياتها.
ومع التعددية والتفتح السياسي تطور السلوك الشباني، ففكر بعضهم في الانخراط في كلّ حركة يمكن أن تكون مناوئة للتيار المنحاز إلى الحكم، سواء الإسلامي المعتدل آنذاك، إذ كان الأقرب إلى ميولهم وتربيتهم الأصيلة، أو البربري الذي يمكن أن ينفردوا فيه بالتواجد، ولا يزاحمهم فيه إخوانهم المتساكنون، رغم الأفكار والميول اللائكية التي يتبناها هذا الاتجاه، والتي تعبّر عن اعتقادات ونظريات إخوانهم القبائل، والمعروفة بالعداء عند المتطرفين منهم لكلّ ما هو إسلام أو عروبة على الخصوص.
ومن جهة أخرى حاول بعض المسؤولين المحليين استغلال هذه الظاهرة الاستنكارية لدى الشباب، وبخاصّة أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مهمشين بفعل اقترافهم لبعض المخالفات أو خروجهم عن طاعة أعيانهم، فشجعوا انضواءهم ضمن جمعيات متعددة وللأحياء وللنشاطات المختلفة، فأضحت هذه الواجهات تستغل لدعوتهم لحضور اجتماعات والمساهمة في عمليات، تستهدف هذه السلطات من وراءها إضعاف جانب الأعيان والوجهاء من جهة، وبلوغ مآربها ومحاولة السيطرة على الأوضاع حسب زعمها من جهة أخرى. ولقد كانت لهذه المبادرات نتائج سلبية على المجتمع إذ أصبحت هذه العناصر الغير خاضعة لأعيانها والطيعة لهؤلاء المسؤولين طبعا، تشعر بقوّة متنامية تعتد بها لتتطاول على أعيانها، وتقوم بأعمال لا يرضون عنها، إن لم نقل إنّها استفزازية ومتحدية للتوجه العام الهادئ والهادف لعقلائهم.
وبالفعل لقد تمّ استغلال فكرة المجتمع المدني والتسهيلات الممنوحة لإنشاء الجمعيات في مختلف المجالات، فظهرت إلى الوجود وجوه مغمورة لها من الطموحات والأغراض والأهداف ما أذكى فيها نشاطا وحيوية استغلها هؤلاء المسؤولون لإبراز زعامات شابة حسب ظنّهم، يمكن أن تكون بديلا للزعامات المحلية التقليدية، فأغدقوا عليها الكثير من الإعانات المادية، كما حظيت بالدعم المعنوي، ممّا جعلها تمعن في تحركاتها بل وتعمل جاهدة لإرضاء مموليها وأرباب نعمها.
لقد وجدت هذه الجمعيات في المجالات المفتوحة لها فرصا سانحة للعمل والتحرك وابتغاء الزعامة فكان لكلّ ذلك آثارا توحي ظاهريا بتواجد مجتمع مدني بممثلين جدد، لكنّه في خاتمة المطاف نجد تضاربا وصراعا عقيما يضعف كيان المجتمع ويفرقه شيعا وطوائف بحيث تضيع المصلحة العامّة وتتبعثر الجهود فيتسلل كلّ من له نوايا غير حميدة إلى الصفوف، يستغل الصراعات والتطاحنات ليكثر من الفوائد ويحقّق المزيد من المنافع للأسف.
أمّا فكرة إنشاء الجمعيات وكذا تشجيعها فهي في جوهرها من الخطوات الإيجابية لإذكاء النشاط في المجالات المتعدّدة التي يزخر بها المجتمع، وهي كذلك وسيلة مثلى للتكفل بانشغالات الشرائح التي تتكون منه، وإبراز الطاقات الكامنة بعد أن كانت محصورة في المنظمات أو تنظيمات محدودة المبادرات والفعالية. لذا فإنّ محاولة استغلالها حسب الأهواء والنوايا المبيتة لهي التصرفات التي يعاب عليها بعض المسؤولين، وهذا ما وقع في غرداية، وعمل عليه هؤلاء لإحداث الشقة بين بني ميزاب وإخوانهم المتساكنين، للعب دوما على الحبلين واستدرار الفائدة من الطرفين.
هذا ولقد كان بين المسؤولين الذين تعاقبوا على المنطقة من فكّر كذلك في إضعاف سلطة الهيئات العرفية من أعيان ومجالس مختلفة لكي يتمكن من بسط نفوذه وفرض آرائه وتطبيق القوانين حسب زعمه، ظنّا منه وخطأ أنّ مثل هذه الهيئات تشكل عائقا دون ما يصبو إليه ويطمح إلى تحقيقه، في حين أنّها كانت وستبقى دوما حصنا منيعا دون تفكك عرى المجتمع، وملاذا لكلّ المسؤولين حين تشتد عليهم الأزمات، وتنسدّ أمام وجوههم السبل، ويصعب عنهم حلّ مشكل له اتصال بالمجتمع، لأنّ لهالديه كامل التقدير والاحترام، ومكانة لا تعوّض وإن ضعفت أحيانا، كما أنّها تتمتع ببعد النظر وسداد في الرأي ولو لم يهتد البسيط إلى إدراكه. فكم من حادثة أو أزمة انفرجت ووجد لها حل ولو جزئيا بفضل تدخل هذه الهيئات والاعتماد على الأساليب التقليدية الرصينة العريقة، ولمّا ثبت لدى عموم المواطنين من قناعة واعتراف بنضج حلولها وسداد ما تذهب إليه، نظرا للحنكة التي أكسبتها لها التجارب عبر الزمن .
لذا فإنّ اللجوء إلى افتعال الصراع الداخلي ومحاولة إبراز طائفة لتصبح يوما ما بديلا للهياكل العرفية العريقة لمن أفدح الأخطاء التي وقع فيها بعض المسؤولين سواء عن جهل لحقيقة الأوضاع الاجتماعية أو محاولة لنسف النسيج المتماسك منذ القدم، تطبيقا لنظريات اجتماعية أو سياسية خاطئة مع الأسف، في حين أنّ حصافة الرأي وبعد النظر والحكمة تكمن في التعامل الذكي مع كلّ الأوضاع المتواجدة، والتي أثبتت التجارب سدادها ونجاعتها، وكان الأفضل هو السعي إلى إشراكها بنصح ودون المراوغة لكسب تفاعلها والتزامها وتجندها للعمل على تحقيق المصالح العليا للوطن والمواطنين، وإبطال مفعول كلّ الانحرافات والوقوف أمام كلّ الانزلاقات، خاصّة وأنّ هذه الهياكل والرجال المخلصين فيها لا يرمون إلاّ لمثل هذه المثل العليا والأخلاق السامية والسلوكات الحضارية، رغم ما أفرزته التقلبات والتطورات والتأثيرات والبيئة المحيطة من نتوءات وتصرفات غريبة عن المنطقة وحسّها الديني وتربيتها المدنية وشعورها الوطني.
أجل إنّ ماعرفته الجزائر عموما وميزاب جزء لا يتجزأ منها من تطورات مختلفة لممّا يثير الدهشة حقًّا، لكن ما يسمّى بالتقدم والحضارة قد زحف بالإيجابيات والسلبيات. والخطأ كلّ الخطأ أن يحاول أيّ كان أن يجاري السلبيات أو أن يستغلها لضرب الإيجابيات، مهما بدت متحجرة، لأنّ ذلك يعدّ بمثابة الجري وراء سراب خلاب، لا جدوى ترجى منه، وهو بالتالي هدم لبناء قديم يصون المجتمع قبل بناء هيكل جديد وعصري يمكن أن يأويه.
إنّ ظاهرة التنكر للقديم الناجح في الماضي، بدعوى العصرنة والتقدم دون التحصين للجديد والإعداد له بجدية وحزم ونية صادقة، لممّا يؤسف له، إذ قد يتلف رصيدا ثريا كان أحرى بنا أن نعالج بعض النقص الذي يعاني منه، محافظين على اللب الثمين، نزكيه ونطوره حتّى يكون لتقدمنا محتوى حضاري يتماشى مع التطور السليم. أمّا التفريط فيه واللهث وراء قشور الآخرين فهو عين الخطأ ومكمن الداء وسبب الخراب الذي آلت إليه أخلاقنا وتقاليدنا وعاداتنا العريقة وسلوكنا المدني الذي كان رغم ضعف مستوانا العلمي رصينا وحضاريا حقًّا .
وإلى جانب كلّ هذه التصرفات وتداعياتها برزت فكرة التوازن بين الطائفتين كما سبقت الإشارة إليه كأسلوب جديد حاول بعض المسؤولين اعتماده للعدل بينهما حسب زعمهم، لكن تصرفاتهم أفصحت عن ضعفهم في مواجهة الحقائق واتخاذ ذلك ذريعة فقط. فكم من أخطاء ارتكبت باسم هذه التوازنات في قضايا متعددة إذ تعطى الأفضلية لطرف دون آخر فيغدو طرف ما ضحية. وأمام الحرج الذي يجدون أنفسهم فيه فإنّهم كثير ما يلجؤون إلى استبعاد كلا الطرفين ليستنجدوا بأشخاص من خارج الولاية باعتبارهم عناصر محايدة، فتكون الانعكاسات سلبية على الطرفين، وهذا ما عمّق الشعور بالغبن وأدّى بالطموحين لاعتلاء المسؤوليات إلى نوع من السخط على المسؤولين المحليين. ولقد ظهر ذلك جليا في إسناد الكثير من المناصب إلى غير أبناء الولاية بدعوى ضرورة ضمان الحياد داخل المصالح، واستبعاد المحاباة والانحياز الذي يمكن أن يطغى على أبناء المنطقة عموما، فأبعدت عناصر كفأة كانت ترى في الفرص المتاحة مناسبة للحاق بالوظائف المتوفرة محليا، ممّا زاد من غضب الشباب بل وفسّروه كمحاولة لجلب أفراد يكونون منفّذين لمراميهم، وأدوات طيّعة في أياديهم لقضاء مآربهم أو الاستفادة من امتيازات، قد يندّد بها أبناء المنطقة نظرا لمعرفتهم الدقيقة بالأوضاع بحيث لا يمكن لأيّ كان أن يمررها دون افتضاح. ولقد امتدت هذه التصرفات حتّى إلى مجال الاستثمار حيث تمتع الوافدون من خارج الولاية بتسهيلات في حين تعثرت الملفات التي قدّمها القاطنون نظرا للتعقيدات البيروقراطية التي يتعرضون لها من طرف المصالح الإدارية والتقنية. وهذا من شأنه كذلك المساهمة في الإحباط وتعميق الشعور بالاستخفاف والاحتقار.
إنّ كلّ ما حاولنا ذِكره كمعطيات هو بعض ممّا أثّر كثيرا في تصرفات الشباب بل ودفعهم إلى اعتماد أسلوب العنف في ردود أفعالهم أمام ما اعتبروه احتقارًا مفضوحا. وهو ما ظهر جليا بمناسبة أحداث غرداية الأخيرة خاصّة وأنها تزامنت مع قرب شهر عظيم شهر رمضان المبارك الذي كان أحرى بكلّ مسؤول أن يتخذ كافّة الإجراءات لضمان أداء هذه الشعيرة في أحسن الظروف وأهدئها.
أمّا عن السلوكات الجديدة والتي تتّسم بالعنف وتخريب الممتلكات العمومية، ممّا لم نعهده سابقا في المنطقة، فمردّها إلى الاقتباس مما جرى في مناطق أخرى من الوطن ومواقف السلطة المتردّدة منها، إذ بذلك رسخت الاعتقاد أنّها الطريقة المثلى لانتزاع حق أو الحصول على تنازل أو إسماع صوت أو إخضاع مسؤول أو حتّى خلعه أو تحويله.
وفي هذا المجال تأتي في المقدمة أحداث منطقة القبائل منذ سنة 2001 والتي لا تزال تشكل مرجعية وسابقة مع ما في كلّ حالة من خصوصية مثل أحداث غرداية .
وبالفعل لقد حاول أبناء منطقة القبائل تصدير تجربتهم إلى المناطق الهشة، مستغلين كلّ فرصة لإثارة القلاقل، أو دفع من تضرّر لسبب أو آخر للبروز بمثل الوجه الذي ظهروا عليه، ليضفوا مصداقية أكبر على حركتهم، وإعطائها بعدا اجتماعيا واقتصاديا أكثر، مستبعدين هكذا عن حركتهم الطابع الجهوي ذي النعرة القبلية القبائلية.
إنّ ما كشف عن تلكم الخلفيات هو ما صدر عن أبناء منطقة القبائل من إعانة مادية رفضت، ومساندة معنوية كشفت عنها برقية التأييد الصادرة مع الأسف من رئيس المجلس الشعبي الولائي لبجاية، بالإضافة إلى تكثيف الجهود لتجنيد محامين وأقلام للوقوف إلى جانب كلّ المتورطين في الأحداث، وكذا إقحام المنظمة التي ينتمون إليها وهي لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان، والقريبة من توجهاتهم في كلّ قضية لكسب الأنصار واستعطافهم.
فلئن نجحوا نوعا ما في بعض الجهات فإنّ الكثير من الأحداث التي وقعت سواء تلك التي لهم فيها يد أو غيرها فقد تمت السيطرة عليها وهدأت إلاّ ما بقي في منطقة القبائل من تشبث بما يسمى أرضية القصر.
هذا وتبقى طريقة الاحتجاج المستعملة مثل سدّ الطرقات وإحراق العجلات ثمّ تحطيم الممتلكات العمومية وبخاصّة تلك التي لها علاقة بمصالح المواطنين مثل الضرائب والبريد والكهرباء والغاز والماء، تبقى هي السائدة. فقد اتّسعت رقعة استعمالها وأضحت الوسيلة المعبّرة عن سخط المواطنين. أمّا السلطات فإنها تحاول دوما أن تهدأ الأوضاع في أوّل الأمر لكن عند تصعيد أعمال الشغب تتصدى لها ولو بوسائل محتشمة لتفادي الاصطدامات الدموية، إلاّ أنّها في الآونة الأخيرة تبنّت نوعا من الصرامة إزاء مثل هذه التصرفات، فلم تعد تسمح بها ولا بالتجمهر الغير مرخص له، بل وجرّمت مرتكبيها وقدّمتهم إلى العدالة حتّى تضرب على أيدي العابثين بالممتلكات العمومية وبأملاك المواطنين.
وخلاصة القول إنّ أحداث غرداية وما اكتنفها قد أفصحت عن اختلالات متعدّدة، منها ما يرجع إلى التراكمات السلبية التي لمختلف السلطات الحزبية سابقا والإدارية دور ومسؤولية كبيرة فيها، إذ عمقت في نفوس الشباب خاصّة شعور الإجحاف والغبن والاحتقار، ومنها ما يرجع إلى الجو الجديد الذي أفرزه التفتح السياسي في الجزائر. فلئن كان ما ذكرناه وغيره قد يفسر تلكم التصرفات فإنّه لا يمكن أن يبررها أبدا.
ولقد ظنّ بعض الشباب كذلك أنّ الفرصة مناسبة لتغيير جذري في سلوكات كبارهم، والثورة على تقاليدهم، محاولين محاكاة الأنماط التي تفتحت عليها عيونهم هنا وهناك، إنّ هذا الصراع الخفي الظاهر هو الذي أثّر كثيرا على سير الأحداث في غرداية ومختلف تطوراتها. إنّه هو الذي سيظل مؤثرا إلى فترة بعيدة على الأوضاع، كما أنّه سيلقي بظلاله على الاستحقاقات المقبلة نظرا لاستغلاله السياسوي من عدّة أطراف، ولو أنّ المجتمع المحلي في غرداية لم يتطبع بعد ولم ينسجم مع التقلبات المعروفة هنا وهناك، وأنّه لا يزال يرى في أغلبيته أنّ الطرق المرنة والهادئة في مواجهة الأزمات وحلّ المشاكل، ما تزال هي المجدية والناجحة، لأنّها أقرب إلى قيمه الدينية السمحة، وتربيته المدنية الحضارية التي أثبتت حتّى بمناسبة الأحداث الأخيرة في غرداية أنّها ناجعة وفعّالة حقًّا. وبالفعل لقد أثار تدخل العقلاء وأسلوبهم في معالجة الوضع كامل الإعجاب، ودفع بمن أخطأ إلى الإذعان إلى الحقّ، كما أنّ الحكمة والرصانة التي يعالجون بها مختلف المشاكل قد أدّت في كثير من الأحيان بالأطراف المتنازعة إلى الصلح، ولو على حساب طرف لأنّ المصالحة تقتضي فيما تقتضي أن يتنازل كلّ طرف عن بعض حقوقه.
وفي الختام يجب أن تستقطب أحداث غرداية أنظار مختلف الجهات الرسمية منها والشعبية لتحليل دقيق لها، يأخذ بعين الاعتبار كلّ المعطيات لاستشراف الغد بكلّ ما يمكن أن ينطوي عليه، حتّى تخف وطأة الأحداث المستقبلية إذا لم يمكن التغلب عليها، والسيطرة على كافّة أسباب وقوعها، ومنع استغلالها، ذلك أنّ منطقة غرداية بخصوصيتها لهجة ومذهبا والجزائر عامّة مستهدفة.


ليست هناك تعليقات: