البِغاءُ والبِغاءُ الْمُقَدَّسُ
أولاً- البغاء

البغاء: ممارسةُ المرأة الزنا لقاءَ أجر، لحاجة. فإن خلا من الأجر والحاجة فهو الزنا. وكان البغاءُ موجوداً عند معظم الشعوب القديمة والمتحضرة، حتى أن بعض الدول كانت تنظم شؤون البغايا، وتضع لهن التشريعات. وكان البغاء منتشراً بين اليهود منذ عهود قديمة،كما يوحي به هذا النص: «لا تدنسْ ابنتَك بتعريضها للزنى» [سِفر اللاويين 19/29]
وقد عرِف العربُ في جاهليتهم إلى جانب الزواج الشرعي، الذي كانوا يسمونه زواجَ البعولة؛ أنواعاً من الأنكحة الباطلة أو الزنا، منها البغاء، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – عن أنواع النكاح، في الجاهلية، أنها قالت:«إِنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ...وَنِكَاحُ الرَّابِعِ: يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ، لا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا، كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ، تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ».
وظل البغاءُ عند مشركي العرب حتى بعد ظهور الإسلام، كان لعبد بن أبي بن سلول (زعيم المنافقين) إماءٌ، كان يكرههن على البغاء؛ طلباً لخراجهن، فأنزل الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33].وكانت تقام للبغايا بيوتاتٌ تُدْعى (المواخير) تشرَب فيها الخمورُ وتمارَس فيها الزنا.
يقول علي عبد الواحد وافي: كان كثير من سراة اليونان في العصور القديمة يستخدمون إماءهم في البغاء؛ للانتفاع بأجورهن، بل إن بعض حكوماتهم أخذ ينافس الأفراد في هذه التجارة، فقد نظم صولون نفسه – وهو كبير مشرع أثينا وحاكمُها – شؤون البغاء الرسمي، وانشأ منازل خاصة للبغايا، واشترى عدداً كبيراً من الإماء، وفرَّقهن على هذه المنازل، لتنتفع الدولة بأجورهن. كذلك كان البغاء منتشراً انتشاراً كبيراً في معظم المدن الرومانية.
وكان كثير من اليابانيين يخصصون بناتهم للبغاء؛ للانتفاع بأجورهن، فيُلْحِقوهنّ بمنزل من منازل الفسوق، وما كان يجوز للبنت أن تعصي أباها، ولا أن تعترض على أمره. ويضاف إلى هؤلاء طائفة أخرى كبيرة العدد – في اليابان – تتألف من اللائي يسلكن هذا الطريق، بمحض اختيارهن.
وقد جرت عادة بعض الأزواج في الصين أن يقدموا زوجاتهم للبغاء؛ للانتفاع بأجورهن.
وكان كثير من الدول المتحضرة في أوربة وأمريكة وغيرهما تقر البغاء الرسمي، وتسن له اللوائح والقوانين، وتنتفع حكوماتها بما تجبيه من المومسات من رسوم وضرائب، ولا يزال هذا النظام معمولاً به في بعض هذه الأمم ف الوقت الحاضر.. كذلك انتشر نظام البغاء الرسمي في كثير من الدول العربية والإسلامية بعدما دخلتْ تحت نير المستعمر الأوربي.
واصطلح الباحثون على تسمية هذا النوع من البغاء بالبغاء المدني، تمييزاً له عن البغاء الديني.

ثانياً- البغاء المقدس


بجانب البغاء المدني كان يوجد نوعٌ آخر من البغاء، يطلق عليه اسم البغاءُ الديني أوالبغاء المقدس؛ لأنه كان يُعدُّ شعيرةً من شعائر الدين، أو وسيلةً لإرضاء الآلهة والتقرب إليهم. وقد عثر الباحثون على عدة مظاهر لهذا النظام عند كثير من الشعوب.
نقل (علي وافي) عن (ريد = Read) قوله: إن كثيراً من زنوج أفريقية ينظرون إلى البغاء أحياناً على أنه عمل من أعمال البر الديني، حتى إن الموسرات من النساء ليشترين – وهن في مرض موتهن – إماءً يوصين بأن يخصصنَ للبغاء، ويتخذن من ذلك وسيلةً للتقرب إلى الله، وخَتْمِ حياتهن بصالح الأعمال. كما تفعل الموسرات من نساء إنجلترة، إذ يوصين قبل وفاتهن بجزء من ثرواتهن لعمل خيري عام.
قال: وذكر (إليس = Ellis) في اثناء حديثه عن أهل ساحل العبيد بأفريقية أنه كان يوجد في كل مدينة من مدنهم مؤسسة، تقدم إليها الفتيات الجميلات من سن العاشرة إلى الثانية عشرة، ويقضي هؤلاء الفتيات بهذه المؤسسات ثلاث سنين، يتعلمن في أثنائها الرقص الديني، وترتيل الأوراد المقدسة، في صوت غتائي شجي، فإذا انتهت مدة تعلمهن تخصصن للبغاء المقدس، فيصبحن من الناحية النظرية وقفاً على رجال الدين، وإن كن في الواقع لا يمتنعن عمن يريدهن من غيرهم. وينظر الناس إليهن في هذه البلاد على أنهن زوجات للألهة، ويُعتقد أن ما يأتينه من أعمال ليس إلا ضرباً من ضروب العبادة التي يُتقرَّب بها إلى الله زلفى، ويُستدَرُّ بها عطف السماء؛ ولذلك كان يٌنظَر إلى من يأتين به من الأولاد على أنهم أولاد الله.
وقال وافي: وروى (إليس) كذلك عن أهل ساحل الذهب بأفريقية أن راهباتهم وقسيساتهم كان يحرم عليهن الزواج، ولكن كنَّ يزاولن نوعاً من البغاء المقدس، يشبعن عن طريقه رغباتهن مع من يشأنَ من الرجال، فإذا راق في أعين إحداهن رجلٌ ما دعته إلى منزلها، وأنهتْ إليه أن (الإله) الذي أوقفت حياتها على عبادته قد أوحى إليها أن تتخذه عشيقاً لها، فيغتبط الرجل أنْ وقع عليه هذا الاختيار، ويظل حبيساً لديها، يحقق لها رغباته، حتى تملّه، فتستبدل به رجلاً آخر، تعيد معه القصة نفسها، وهكذا دواليك. وقد تجمع الواحدة منهن أكثر من رجل واحد في منزلها، بل قد يصل عشاقها إلى ستة رجال أو نحو ذلك، وتسير البغيُّ من هؤلاء في الحفلات المقدسة، يحيط بها عشاقها كما تحيط الحاشية بملكة أو أميرة. فحياتهن حياة فسق وفجور بالغين. وقد ينحدر بعضهن في هذه الوهدة إلى مستوى حيواني وضيع، وخاصة عندما يهيِّجها الرقص الديني، الذي تزاوله من حين لآخر.
(وقال وافي): ومن أشهر أنواع البغاءِ المقدس ما كان يجري عليه العمل في (بابل) في معبد الإلهة ميليتَّا = زهرة (وهي في شخصيتها ووظائفها وأساطيرهاتماثل الإلهة أفروديت عند اليونان والإلهة فينوس عند الرومان والإلهة عشتروت عندالفينيقيين) وقد أفاض المؤرخ اليوناني هيرودوت في وصف هذا النظام، فذكر أن كلبنت تولد في هذه البلاد كان يجب عليها مرة في حياتها أن تذهب إلى معبد الإلهةميليتا حيث تقدم نفسها لرجل أجنبي عن البلاد، فكانت تجلس في ساحة المعبد حتى يمربها أجنبي، ويضع على ركبتها قطعة فضية من النقد، داعياً في أثناء ذلك (أن تباركهاالإلهة ميليتا وتشملها برعايتها) ثم يصحب الفتاةَ بعيداً عن الساحة المقدسة ليقضيمعها إربته... وكان يُنْظَر إلى هذه الاتصالات على أنها ضربٌ من العبادة الدينية، أو نوعٌ من القربان، تقدمه الفتياتُ لإلهتهن ميليتا وكان يُعْتَقَد أن هذا الضرب من العبادة، أو القربان من أحب العبادات والقرابين إلى الإلهة، وأنه مصدرُ خير وبركة للفتاة.
(وقال وافي): ولهذا التقليد البابلي أشباهٌ ونظائرُ في كثيرمن بلاد اليونان في عصورها القديمةوخاصة في بعض مناطق في جزيرة قبرص، وبيبلوس،وقورنثة، وأثينة، ففي قبرص كان يجب على العذارى أن يذهبن إلى ساحل البحر في أيام معلوماتليقدمن بكارتهن قربانا للإلهة أفروديت. وفي معبد الإلهة أفروديت بقورنثة كانيوجد عدد كبير من النسوة، يزاولن البغاء المقدس. وتروي الأساطير اليونانية أنبعض مدن اليونان كانت إذا اشتبكت في حرب ينذر أهلها للإلهة أفروديت أن يخصصوابناتهم للبغاء المقدس في معابدها، إذا أمدتهم بعون منها فخرجوا منتصرين على أعدائهم.
وجرت عادة سُراة اليونان في مملكة أثينا وغيرها أن يخصصوا بعض إمائهم للبغاء فيمعبد من معابد الإلهة أفروديت، على أن يخصص دخلهن من هذه المهنة لصندوق المعبدنفسه. وقد انتشرت هذه الطقوس في مخلتف بلاد اليونان... وقد أطرى هذه الأعمال كبيرُ مؤرخيهم سترابون وعدَّهامشروعات وطنية جليلة؛ لأنها على حد قوله: تجذب الأجانب للبلاد (أي: السواح)، فينفقون فيهاأموالهم، فتنتعش بذلك اقتصادياتها، ويعمها الرخاء، ويزداد دخلهاالقومي.
وعند قدماء الأرمن كانت الفتيات يزاولنَ كذلك البغاءَ المقدس بالطريقة نفسها التي كانت تسير عليها البابلياتُ، أو بطريقة قريبة منها، فقد روى سترابون أن كل أسرة أرمنية، حتى الأسرات الأرستقراطية الراقية كانت تبعث ببناتها إلى المعابد؛ ليزاولن البغاء المقدس، فترة معينة في حياتهن.
(وقال وافي): ويظهر أن المرأة التي كانت تُعد في نظر قدماء المصريين زوجة للإله في طيبة، كانت تمارس كذلك الغاء المقدس في المعابد، فقد روى المؤرخ سترابون أنها (كانت تتصل بمن تشاء من الرجال، حتى يتخلص جسمها من أدرانه، وتصل إلى أقصى درجات الطهر، وجينئذ تَهَب نفسها لرجل واحد).
(وقال وافي): وفي كثير من معابد الهند، في العصور القديمة، كانت تقطن طائة من الراقصات، يزاولن البغاء المقدس. وكنَّ موضع إجلال ديني، فكانت مرتبتهن تأتي بعد مرتبة السدنة، ومقدمي الضحايا للمعبد... وقد ظلت هذه التقاليد سائدة في في مناطق من بلاد الهند إلى عهد قريب، ففي القرن التاسع عشر نفسه كان لا يزال يوجد في كثير من معابد الهند عدد كبير من البغايا، يزاولن مهنتهن لصالح المعابد نفسها، ويخصصن لها دخلهن من هذه المهنة، وكان هؤلاء النسوة موضع تقدير وإجلال لخاصة القوم وعامتهم، بل كن وحدهن اللائي يسمح لهن بالتعلم في الهند.([1])
وعند قدماء الكنعانيين (سكان فلسطين ولبنان قديما) كانت توجد طائفة من النسوة، وقفنَ أنفسَهن على خدمة المعبَد، ووهبنَ جسومَهنَّ للبغاء المقدَّس، «وأقام إسرائيل في شِطّيم [اسم مكان في موآب، شرق البحر الميت] وابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب. فدعَوْنَ الشعبَ إلى ذبائح آلهتهن، فأكل الشعبُ، وسجدوا لآلهتهن» [سفرالعدد 25/1-2]
ويقول وِلْ ديورانت في سياق حديثه عن العهر المقدس: «لكنَّ عاهراتٍ من أصناف مختلفة كنَّ يسكنَّ في أرباض الهيكل (حول المعبد) ويمارسنَ حرفتَهنَّ فيها، ومنهن مَنْ كنَّ يجمعنَ من عملهنَّ الأموال الطائلة، وكانت عاهراتُ الهياكل كثيراتٌ في غربي آسية. تجدهن عند بني إسرائيل، وفي فريجية [منطقة في آسية] وفينيقية، وسورية، وغيرها من الأقطار... وظلت الدعارة المقدسة عادة متبعة في بلاد بابل حتى ألغاها قسطنطين حوالي عام 325 ق.م».([2])
ويقول غوستاف لوبون: «إن النظام اليهودي بأسره ليس إلا وجهاً بسيطاً للنظام الكلداني [في بلاد بابل، حيث سباهم بختنصر]... لمْ يجاوز اليهود أطوارَ الحضارة السفلى... فلم يقتبسوا من تلك الأمم العليا سوى أخس ما في حضارتها، أي لم يقتبسوا غير عيوبها، وعاداتها الضارية، ودعارتها وخرافاتها... كان اليهود يحملون نساءهم على البغاء المقدس، في المشارف».([3]) أي: على الجبال والتلال.
كانت عادةُ البغاء المقدس منتشرةً بين اليهوديات، المتزوجات والبنات على حد سواء، ولِمَ لا، ما دام ذلك قربة إلى الله تعالى؟! وهذا ما صرح به هوشع على لسان الرب: «لأن روح الزنى قد أضلهم [يقصد: شعب إسرائيل] فزنوا من تحت إلههم. يذبحون على رؤوس الجبال، ويبخِّرون على التلال، تحت البلُّوط واللّبْنَى والْبُطم؛ لأن ظلها حسن. لذلك تزني بناتُكم، وتفسُق كنَّاتُكم (زوجة الابن). لا أعاقب بناتِكم لأنهن يزنين، ولا كنَّاتكم لأنهن يفسُقن. لأنهم يعتزلون مع الزانيات، ويذبحون مع الناذراتِ الزنى. وشعبٌ لا يَعقِل يُصْرَع» [سِفر هوشع 4/12- 14]
فالزنا بحد ذاته – حسب هوشع - ليس خطيئة تحاسب عليها المرأة، بل هي قربة (بغاء مقدس) ولكن الخطأ في أسلوب الممارسة، فعلى البغيِّ أن تمارس شهوتها في صمت، بعيداً عن الأضواء، أما أن تتخذَ سَمْتَ ومظهرَ (الناذراتِ الزنا)، وتخلعَ عِذار الحياء، وتعتزلَ مع الزانيات، وتشتهرَ بتلك الآفة؛ فحينئذ يكون الفسادُ بلغ نهايتَه، ويكون الدمارُ المحتم، (وشعبٌ لا يَعقِل يُصْرَع).
يؤكد هذا ما ألمح إليه القرآن الكريم في قصة مريم الصِّدِّيقة، نذرتها أمُّها للعبادة وخدمة بيت المقدس، وكان من أمرها ما قصه القرآن الكريم، فلما وضعت وليدها عيسى – عليهما السلام – وحملتْه على يديها، وأتتْ به قومها (بني إسرائيل) اتهموها بهذا النوع من البغاء، تعريضاً، قالوا: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم]
ويخاطب الربُّ أورشليمَ قائلاً: «ازدريتِ أقداسي، ونجَّسْتِ سُبُوتي... في وسطِكِ عمِلوا رذيلةً. فيكِ كَشفَ الإنسانُ عورةَ أبيه، فيكِ أذلّوا المتنَجِّسةَ بطمثها. إنسانٌ فعلَ الرجسَ بامرأة قريبه، إنسانٌ نجَّسَ كنَّته برذيلة، إنسانٌ أذلَّ فيكِ أختَه بنتَ أبيه» [حزقيال: 22/ 8- 11] اللواط بالأب، والزنا بالحائض، وبامرأة القريب، وبالكنّة، وبالأخت. وماذا بعد؟ وما جديدُ عاهرات ومِثْلِيِّيْ أوربة وأمريكة؟ وما مصدرُ الدعواتِ المطالِبَةِ برفع حاجزِ زواج المحارم هناك أو هنالك، إن لم يكن هذا الكتاب؟
لقد عرف العرب أنواعاً من الزنا، ولكنهم لم يعرفوا البغاء المقدس، حتى البغايا ما كان يذهب إليهنَّ إلا سفلةُ الناس، ولا يذهبون إلا في الظلام، يجرَّون أطراف مآزرهم وراءهم؛ لتطمس آثارَ أقدامهم على الرمال، لذلك أطلق على البغايا اسم الْمُظْلِمات وفي ذلك تقول العوراء بنت سبيع في رثاء([4]) :
أبكِي لِعَبْدِ اللهِ إذْ *** حُشَّتْ قُبَيْلَ الصُّبْحِ نَارُهْ
طَيَّانَ طَاوى الْكَشْحِ لا *** يُرْخَى لِمُظْلِمةِ إزَارُهْ

ورغم انتشارِ نورِ الإسلام، وأنوارِ سورة النور؛ لا زال البغاءُ المقدس موجوداً اليوم، تشرِّعُه وتمارسُه بعضُ الطوائف، وراثةً عن اليهود وغيرهم، ولكن تحت أسماءَ وعناوينَ أخرى.
ففاحشة الزنا تمارس على ثلاثة مستويات: (الأول) الزنا، وسببه ضعف النفس والوازع الديني، والمذنِبُ موضع مغفرة الله إن تاب. (والثاني) البغاء، وهو انحرافٌ عن الفطرة السوية، وحِرفةٌ قذرة، تُسبب الإفساد. (والثالث) البغاء المقدس، وهو الأسوأ؛ ففيه - إضافة إلى ما سبق - إضفاءٌ للقداسة على أداء اللذة الجنسية بطريقة غير مشروعة، وفي مكان يُفْتَرَضُ فيه أن يكون مقدساً، بعيداً عن هذه القاذورات.

ثالثاً- دافع الجنس وظيفته وضبطه


دافع الجنس دافع فطري في كيان الإنسان، وهو مما أقره الإسلام، قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ... ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...} [آل عمران: 14]
وهذا الدافع له هدفان: قريب وبعيد، أما القريب فهو الاستمتاع الحسي، وهو - في الوقت نفسه - وسيلةُ إلى الهدف البعيد، المقصودِ أصلاً من هذه الشهوة أو الدافع. وأما الهدف البعيد فهو التناسل؛ لحفظ النوع، واستمرار بقائه، أخرج أبو داود والنسائي عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ – رَضِيَ الله عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ».
يقول الغزالي في بيان الغاية من دافع الجنس: «إن شهوة الجماع خُلقت لتكون باعثة للإنسان على الجماع، وهو سبب بقاء النوع الإنساني، فيُطلَب النكاحُ للولد، والتحصن، لا للعب والتمتع».([5])
فالمؤمن الحق لا يكون هدفه من الجنس الاستمتاع الحسي فقط، بل يجب عليه أن يجعل هذا الهدف وسيلة إلى هدفين أسميين، هما التناسل لبقاء النوع، وتحصين النفس ضد الانحرافات الجنسية؛ لأن الوقوف عند الاستمتاع الحسي عبث لا يليق بالعاقل.
وقد عدَّ الإسلام الزواج الرابطة الجنسية الوحيدة المشروعة، التي تحقق أهداف الاتصال الجنسي اللائق بالإنسان، لذلك حض عليه، لأنه بالزواج تتحقق الرغبة في الإنجاب، خاصة عند الأم. وبالزواج تتحق السكينة والطمأنية النفسية. وبه تتحصن النفس ضد الانحرافات والاتصالات الجنسية الشاذة،. وبه يتكون المحضن المناسب لتربية الأولادجسمياً، ونفسياً، وعقلياً، وروحياً.
ولا يتحقق شيء من هذه الأهداف عن طريق الاتصالات الجنسية الشاذة كاللواط، أو السحاق، أو الزنا، أو البغاء، أو البغاء المقدس، لذلك حرمها الإسلام، وقرر العقوبات المناسبة على مرتكبيها؛ لما لها من أضرار على الفرد وفطرته، وعلى الأسرة، وعلى المجتمع.
كذلك حرم الإسلام الرهبانية، لمافيها من مناقضة للفطرة الإنسانية؛ حيث يحصل بسببها العنت والمشقة؛ لقوة دافع الجنس وشدة التوتر الناشئ عن عدم إشباعه. ولما يترتب عليها من انقراض النسل وخراب العالم.{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] فالله تعالى لم يفرضها عليهم، لكنهم هم فرضوها على أنفسهم طلباً لرضوان الله تعالى، فما رعوها حق رعايتها، ولم يفوا بمستحقاتها. وهي أيضاً أمر مخالف لسنة الأنبياء {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]
إن تلك الممارسات الجنسية الشاذة لا تحقق أي هدف من الأهداف التي خلقت الشهوة الجنسية من أجله، فلا نسل، ولا سكن، ولا سكينة، بل هي انحراف باللذة عن مسارها، ووسيلة إلى الفساد والإفساد في الأرض، كنشر الإيدز وغيره من الأمراض الجنسية، إضافة إلى ما فيه من اختلاط الأنساب، وضياع الحقوق {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32].
********************

الاثنين 16/شوال/1431هـ = 4/10/2010م
أبو الخلود

الهوامش
([1]) انظر للوافي: قصة الزواج والعزوبة في العالم (ص 65- 72) أو غرائب النظم والعادات والتقاليد (ص 256- 263).
([2]) قصة الحضارة- الجزء الثاني من المجلد الأول (2/230).
([3]) اليهود في تاريخ الحضارات الأولى (ص 30، 31، 32).
([4]) ديوان الحماسة لأبي تمام وشروحه. قال المرزوقي: (2/1106) (حُشَّت نارُه): ضَمَّ ما تفرق من الحطب إليها، وأُوقدت، وإنما تريد نار الضيافة. وقال الأعلم الشنْتمري (1/532): (الطيان): الضامر البطن جوعاً. (والطاوي): الضامر البطن خلقة. أي: كان مهفهفاً، قليل اللحم. (والكشح) الجنْب والخِصْر. [والعرب ترى من السيادة ألا يشبع الرجل]. (والمُظلمة): الْخَصْلة القبيحة، أي: لا يرخي إزاره لفاحشة. وقال أبو العلاء المعري (1/668): (ومُظلمة): امرأة أظلم عليها الليل. وكانوا إذا قضوا حوائجهم من الفواحش عفُّوا آثارهم بالأُزر لئلا تُقْتَصَّ.
([5])مدارج القدس في معارج معرفة النفس (ص 72)